شكّلت أفراح الغزيين دافعاً قوياً لتحدي الحصار المفروض على القطاع منذ سنوات، إذ لجأ العديد منهم إلى تصميم فساتين الزفاف محلياً بعدما كان يتم استيرادها من سوريا وتركيا، لتتحول إلى تجارة رابحة تضفي السعادة على قلوب المقبلين على "ليلة العمر".
أحد هؤلاء المصممين شابٌ يدعى يحي الشناوي (34 عاماً)، والذي يعمل في ردهة منزله الصغيرة رفقة زوجته لصناعة فساتين الزفاف، ثم بيعها لأصحاب المعارض للتأجير بنحو 400 دولار.
وداخل منزله البسيط، بدأ الشناوي الحديث عن عمله، موضحاً لـ "عربي بوست" أن البداية كانت حينما عمل خياطاً لدى أكبر المعارض المختصة في بيع فساتين السهرة وتأجير بدل الزفاف، فكان يلمح زميله وهو يصمم الفساتين ومن ثم يحيكها، حتى عرض على مرؤوسه تجربته في رسم بعض التصاميم، فوافق على ذلك. وبالفعل تم تجهيز بدلات زفاف لاقت رواجاً كبيراً داخل المعرض.
وبحسب المصمم، فإن صناعة الفساتين في قطاع غزة بدأت منذ 8 سنوات، حينما فُرض الحصار على القطاع ولم يعد بمقدور التجار الحصول على بدلات الزفاف من مصر وتركيا وسوريا كما اعتادوا في السابق، ما اضطرهم إلى صناعتها بغزة بأبسط الإمكانيات والترويج لها من قبل أصحاب المعارض على أنها مستوردة لا محلية.
أجرة فستان الزفاف تفوق الـ 300$
ويوضح الشناوي الحاصل على دبلوم مونتاج سينما وتلفزيون، أن ترويج أصحاب المعارض الكبرى للفساتين على أنها مستوردة هو لكسب الزبائن وجني الربح الوفير منهم، فهو يقوم ببيع البدلة الواحد بمبلغ يصل 300 دولار بينما يقوم صاحب المعرض بتأجيرها بالمبلغ ذاته وأكثر لليلة واحدة.
وبعدما أتقن الشاب الحياكة، قرر العمل وحده بمساعدة زوجته وفتاة أخرى، فكان مقره البيت، لكنه صدم لاحقاً بسبب قلة الإمكانات المتوافرة لصناعة بدلة الزفاف كالأقمشة ذات الجودة والخرز الأبيض والملون، الذي يشتريه كبار التجار فور سماح إسرائيل بإدخاله إلى قطاع غزة فيبيعونه في الأسواق بسعر مضاعف.
يضيف الشناوي، "تكلفني البدلة الواحدة 100 دولار، إلا أن غلاء أسعار للمواد الخام يجعل تكلفتها تصل إلى الضعف، ومن ثم نقوم ببيعها للمعارض الكبرى بسعر لا يتجاوز الـ 400 دولار".
ويشير المصمم الشاب إلى أنه يعمل على التنويع في تصاميم فساتين الزفاف لإرضاء الأذواق، فأهل مدينة غزة يميلون إلى البساطة، بينما يفضل أهالي المناطق الشمالية والجنوبية من القطاع بدلات الزفاف ذات الطابع الشعبي حيث "الخرز والأشكال المتعددة".
أما زوجة الشناوي هبة، فتقول إنها لا تمانع العمل مع زوجها في البيت، فقد اكتسبت الكثير من المهارات وباتت تساعده في مختلف التصميمات كونها أقرب إلى الزبائن منه، فهي تتفهم رغبات الفتيات المقبلات على الزواج في تحديد فستان الزفاف الذي يرغبون ارتدائه.
بينما وجدت الشابة مريم في عملها مع الشناوي فرصةً لتحقيق حلم طفولتها في تصميم الأزياء، إذ يمكنها العمل في حياكة بدل الزفاف وجني المال لإعالة أسرتها وإحضار طفلها الصغير معها، بخلاف أماكن أخرى ترفض ذلك.
من الصحافة إلى عالم الأزياء
شاب آخر في مقتبل العشرينات من عمره يدعى محمود قنيطة، تخرّج من قسم الصحافة والإعلام من إحدى الجامعات الفلسطينية، ولم يجد عملا دائماً في مجاله، فشق طريقه بنفسه حينما نمى موهبة الرسم حتى وصل به إلى الحد الذي يتيح له اقتحام عالم الأزياء وفرض نفسه حتى لمع اسمه بين أصحاب أكبر معارض قطاع غزة.
يقول قنيطة صاحب محل "مون آمور" إنه اقتبس "تصميماتي من أزياء عالمية وأخرج بشيء مميز يليق بالعروس الغزاوية، أصبحت الفتاة تطرق بابي لاختيار فستان زفافها وشرائه بذات السعر الذي يمكنها استئجاره من محل آخر، وذلك تحت شعار أعلنته مؤخراً (لك الخيار.. بيع مش إيجار)".
ويعاني قنيطة كسابقه من جشع التجار برفع ثمن المواد اللازمة لتصميم فستان زفاف متكامل، و يوضح أن تكلفة الفستان لديه تصل إلى 300 دولار، لافتاً إلى أنه يبيع ما يصنعه برفقة عماله للمحلات الكبرى، ويقوم في بعض الأحيان بتصدير إنتاجه إلى الضفة الغربية.
ويستطيع قنيطة خلال أسبوع واحد تسليم العروسة فستان زفافها، فلا يمكن تفريقه عن الفساتين المستوردة، ما دفع بإحدى الشركات التركية لدعوته للمشاركة في معرضها بأسطنبول.
ويفخر قنيطة بتهافت المعارض الكبرى على تصميماته، مشيراً إلى أنه رغم الحصار، فإن الكثير من الشباب الذين يسيرون على دربه باتوا يتنافسون في هذا المجال.
وفي مشغل قنيطة يعمل أيضاً طالب كلية القانون شادي عطية، والذي يتقن المهنة كما يجيد القوانين التشريعية، يقول بأنه أحب هذا المجال ولا يشعر بالحرج كونه يعمل فيه، "فالوضع الاقتصادي السيء دفعني للعمل لتحصيل رسومي الجامعية، بالإضافة إلى تعلم مهنة جيدة لا ضرر فيه لقلة الفرص التي يجدها الشباب تتناسب مع تخصصاتهم بعد التخرج".
على الجانب الآخر، أكد عدد من أصحاب المعارض الكبرى أن السبب وراء تأجيرهم للبدل بسعر مرتفع يكمن في ارتفاع أثمان شرائها كونها مستوردة، لكن عند مواجهتهم بأن بضائعهم محلية الصنع نفوا ذلك وامتنعوا عن الحديث، بالإضافة إلى منع "عربي بوست" من التصوير أو الحديث إلى أي من العاملين الذين لا تتعدى أجورهم 300$.
ويتخلص أصحاب المعارض الكبرى من فساتين الزفاف بعد تأجيرها لـ 5 مرات، إما من خلال إتلافها أو استغلال الأقمشة لصناعة أخرى جيدة، أو بيعها بسعر زهيد لمعارض في مناطق بسيطة.
يذكر أنه في الآونة الأخيرة انتشرت محلات تأجير بدل الزفاف بشكل كبير في مختلف أنحاء قطاع غزة، ففي الشارع الواحد الذي لا تتعدى مساحته كيلو متر مربع، تقف العروس حائرة بين ثلاثة محلات أو أكثر لتجد فستان زفافها الذي رسمته في مخيلتها لترتديه في ليلتها.
ويصف صانعو البدل في قطاع غزة بأنها "كتجارة الكوكايين الأبيض" في إشارة منهم إلى الربح الكبير الذي يحصلون عليه من وراء هذه المهنة.