لا شكّ أن العلاج بالتسوق سلوكٌ تتبعه شريحة كبيرة من الناس حول العالم، ورغم أنه يُحسّن بالفعل الحالة المزاجية للمرء، لكنه إحساس لا يدوم طويلاً. فالشعور بالندم، الذي يتبع متعة إنفاق مبلغٍ كبير من المال، سيزيد على الأرجح من سوء مزاجك.
لنفترض معاً أن سارة (شخصية متخيّلة) مرّت بأسبوعٍ صعب في العمل، ولتخفيف التوتر، قررت التسوق. فتوقفت عند أحد متاجر الألبسة المفضلة لديها، حيث أعجبها فستانٌ صيفي، وبعدما دخلت غرفة القياس وأعجبها، قررت شراءه.
رغم أن الفستان لم يحلّ مشاكل سارة في العمل، لكنه منحها -ولو لوقتٍ قصير- شعوراً بالتحسّن، سرعان ما ستندم عليه ربما، حين تدرك أن ما تبقى معها من مال لن يكفيها لنهاية الشهر.
وطالما أن سارة لم تعتمد على التبضع كوسيلةٍ وحيدة للتعامل مع التوتر، فيمكن أن يكون "العلاج بالتسوق" الذي لجأت إليه أداةً مفيدة لإدارة التوتر والقلق، وأي مشاعر سلبية أخرى، بشكلٍ صحي وإيجابي.
العلاج بالتسوق: شراء أكثر.. حزن أقل
يُشير مصطلح "العلاج بالتسوق" (Retail Therapy) إلى حالة انخراط الشخص في عمليات تسوقٍ بهدف تحسين حالته المزاجية، وتخفيف التوتر، أو القلق، أو الاكتئاب الذي يشعر به.
تم استخدام مصطلح العلاج بالتسوق (أو العلاج بالتجزئة) للمرة الأولى في ثمانينيات القرن الماضي، عندما ورد ضمن عبارةٍ في صحيفة Chicago Tribune، في عددها الصادر عشية عيد الميلاد عام 1986.
فجاء في مقدمة التقرير: "يعلم الجميع أن الأمريكيين أصبحوا مدمني تسوق، أليس كذلك؟ لقد أصبحنا أمة تقيس جودة حياتها من خلال أكياس التسوق، ونعالج عللنا النفسية من خلال العلاج بالتسوق".
منذ ذلك الحين، انتشر المصطلح وصار يُستخدم على نطاقٍ واسع في الأوساط الصحفية، كما في التحليل النفسي لدوافع الاستهلاك لدى الأفراد. ورغم أن البعض ينتقد هذا السلوك باعتباره يعزز النزعة الاستهلاكية، فهناك من يعتبره آلية تأقلم صحية، طالما لم تتحوّل إلى إدمان.
لكن في أحيانٍ كثيرة، فإن العلاج بالتسوق يصبح أحياناً ردة فعل تلقائية على كل التوتر الذي نعيشه، فلا يُستخدم باعتدال ويتحول إلى وسيلة وحيدة لإدارة المشاعر؛ وهنا يحتاج المرء إلى علاجٍ نفسي لمساعدته على تطوير آلية دفاع جديدة وغير مضرة.
العلاج بالتسوق يمكنه أن يتخذ أشكالاً مختلفة، سواء كان عبر التسوق إلكترونياً، أو زيارة مراكز التسوق، أو حتى الذهاب في جولات تسوق بصحبة آخرين. وغالباً ما يشتري الشخص السلع لنفسه، لكنه قد يميل أحياناً إلى شراء الهدايا للآخرين.
ويُشار إلى أن السلع أو الأغراض، التي يتم شراؤها خلال مرحلة العلاج بالتسوق، يُطلق عليها اسم "مشتريات الراحة".
في استطلاعٍ للرأي أجرته شركة "ديلويت" خلال أبريل/نيسان 2023، وشمل نحو 23 دولة وأكثر من 114 ألف شخص، تبيّن أن ما يقارب 80% أجروا عملية شراء واحدة على الأقل لتحسين مزاجهم في شهر مارس/آذار؛ رغم أن نصف هؤلاء يستطيعون تحمل التكلفة المالية.
ماذا يقول علم النفس؟
في دراسةٍ أجرتها جامعة ميشيغان عام 2014، تبيّن أن التسوق يُعطي المرء "إحساساً بالسيطرة" أكثر بـ40 مرة من عدم التسوق، كما أن الذين اشتروا سلعاً بالفعل كانوا أقل حزناً بحوالي ثلاث مرات، من الذين اكتفوا بالتجول (أو تصفح المشتريات) فقط.
وفق الدراسة، فإن شعور الحزن -أكثر من أي شعورٍ آخر- يرتبط عادةً بشعور العجز، وإحساس الفرد بنقص قدرته على السيطرة من حوله، لأنه يميل إلى الاعتقاد في قرارة نفسه بأن النتائج التي سببت شعوره بالحزن ناتجة عن عوامل خارجية.
وفي المقابل، فإن عملية التسوق من شأنها أن تواجه هذا الشعور بالحزن، لأن انخراط المرء في مراحل الشراء المختلفة، وحصوله في النهاية على السلع التي يريدها أو يستمتع بها، تخلق لديه إحساساً بالسيطرة الشخصية على البيئة من حوله؛ ما قد يقلل من حزنه.
ووفقاً لتجارب نفسية عدة، فإن شعور الفرد بالحزن بعد حدث، يجعله أكثر رغبة في البحث عن أساليب الراحة المختلفة، ويجعله على استعداد أكثر لدفع المال في سبيل ذلك، كنوعٍ من جائزة ترضية. وهذه آلية دفاعية يلجأ إليها الكثيرون.
فالشعور بـ"المكافأة" الذي ينتاب الفرد عند الحصول على سلعة ما يزيد من إفراز "الدوبامين"، المعروف بـ"هرمون السعادة" ويعمل على تنظيم المزاج والسلوك والإدراك، ويساعد على الإبداع واتخاذ القرارات.
أحياناً قد لا تحتاج إلى شراء السلعة نفسها لتحفيز إطلاق جرعات الدوبامين، بل إن مجرد "توقع المكافأة" أثناء التصفح عبر الإنترنت أو مراقبة السلع بين المتاجر، يكون كافياً لاقتناص الشعور بالرضا.
عملية التسوق كذلك يؤدي إلى تشتيت الانتباه عن كل ما يجلب لنا الحزن. فحين نخرج من المنزل متوجهين إلى المولات مثلاً، تأخذنا شاشات العرض ذات الإضاءة الزاهية والبضائع الملونة في المتاجر بعيداً عن واقعنا الخاص.
الأمر نفسه يحدث عند التسوق أونلاين، حيث يمكن للمنتجات الإلكترونية المصوّرة والمنسقة بشكلٍ جذاب أن تشتت تركيزنا عن العوامل التي تتسبب في شعورنا بالحزن. من دون أن ننسى أن التسوق يمنحنا فرصة لإعادة الاندماج بالمجتمع والتواصل مع الآخرين.
فقد وجدت دراسة أجرتها جامعة أكسفورد أنه كلما زاد تعرض الأطفال الصغار للـ"علاج بالتسوق"، أصبحوا أكثر سعادة وأصبحت مهاراتهم اليومية أكثر تطوراً. كما أن التغيرات في مشهد واجهات المحال المعروضة، من متجر إلى آخر، يمكن أن يحسّن المهارات الحركية والاجتماعية للطفل.
سيف ذو حدين.. العلاج بالتجزئة قد يدمر حياتك
يمكن القول إن ثمة خيطاً رفيعاً للغاية يفصل بين العلاج بالتسوق الطبيعي، وبين أن يتحول المرء إلى مدمنٍ على التسوق أو مهووسٍ بالشراء، كلما شعر بالقلق أو التوتر والاكتئاب.
فإدمان التسوق هو نوع من الاضطراب النفسي، مشابه تماماً لأي إدمانٍ آخر (المخدرات أو الكحول). فأن يتسوق المرء باستمرار، ويشتري شيئاً ما لا يحتاجه -فقط للحصول على جرعة الدوبامين- فهذا سلوك مضطرب.
تشير بعض الدراسات إلى أن المصابين بـ"هوس الشراء" يعانون من خلل في الناقلات العصبية الكيميائية الموجودة في المخ، مثل السيروتونين، وهو الخلل نفسه الذي يفسر مرض "الوسواس القهري" الذي يجعل الفرد يواجه صعوبة في كبح جماح رغبته المتكررة نحو فعلٍ معين.
وعادة ما يرتبط "هوس الشراء" بإصابة الفرد بالاكتئاب، نحو 30% من مرضى الاكتئاب يعانون من هوس الشراء.
وعلى عكس "العلاج بالتجزئة"، لا تدوم المتعة المرتبطة بـ"التسوق القهري". فبعد أن نشتري ما لا نحتاجه، قد نجد أنفسنا ونحن نشعر بالذنب أو الندم. وهذا النوع من هوس الشراء منتشر للغاية، ويصيب نحو 6% من الأمريكيين خاصة الفئة العمرية التي تشمل أواخر سن المراهقة وأوائل العشرينات.
لذا، وفي حال كنتَ تشعر بأنك مهووس بالشراء وأنك تلجأ إلى العلاج بالتسوق، بأن تأخذ الأمر على محمل الجدّ وتبحث عن حلولٍ صحية له. وأفضل خيارٍ لذلك هو اللجوء إلى العلاج النفسي.