علاوة على الضرر المعروف للألم المزمن في تعطيل حياة الشخص المصاب وحرمانه من القدرة على الحياة بصورة طبيعية، سواء من ناحية القدرة على النوم وتناول الطعام والتواصل مع الآخرين أو من ناحية الحركة بحرية وقضاء المهام اليومية الطبيعية، اتضح أن للألم المزمن آثاراً كبيرة أيضاً على مزاج المريض وذاكرته بشكل طويل المدى.
ويمكن أن يتسبب الألم المزمن بوتيرة ثابتة وعلى فترات طويلة من الوقت في حياة الشخص في إحداث تغييرات دائمة في تركيب الدماغ وطريقة عمله، وفقاً للأبحاث العلمية والطبية في هذا الخصوص.
التأثيرات العقلية للألم المزمن
لفت موقع Pathway لعلم النفس، أن التعايش مع الألم المزمن قد يكون أمراً صعباً للغاية للتعامل معه عقلياً، ويمكن أن تشعر بالألم المزمن غير المعالج كما لو أنه يزحف ويلتهم كل مجال من مجالات حياتك، فهو يستطيع أن يغير الأشياء بطرق سلبية للغاية، هذه التغييرات والتعطيلات، بالإضافة إلى تجربة الشعور بألم مستمر لا سبيل إلى تخفيفه أو معالجته يمكن أن تغير حالتك المزاجية بلا شك بشكل دائم وطويل التأثير.
كثير من الناس يخافون من الألم، خاصة بعد اختباره بصورة صعبة ومتكررة. ويعمل الألم المزمن كنظام تحذير يتيح لك معرفة أن هناك خطباً ما في الجسم. لذلك بالطبع عندما تعاني من ألم حاد فإنك تشعر بطبيعة الحال أن هناك شيئاً ما خطأً فيك، ومع ذلك لا يعني الألم المزمن بالضرورة أن المشكلة في جسمك في حد ذاته، إذ قد يكون سبب الألم هو عطب حاصل في نظام التحذير نفسه.
وعندما يُصبح نظام إنذار الألم معيباً قد يخبرك أن هناك تهديداً حتى في حالة عدم وجود أي عوامل خطر، وغالباً ما يحدث ذلك بسبب الخوف الشديد من تكرار نوبات الألم بشكل يجعلها تتجسد فعلياً، ويشعُر بها الإنسان بصورة حقيقية،
وقد يلعب الخوف دوراً محورياً في زيادة حدة ووتيرة وتزامن الألم.
تغييرات في تركيب الدماغ ووظائفه
المهاد هو منطقة في الدماغ تعمل كالبوابة الحدودية بين الحبل الشوكي ومراكز الدماغ العليا، وعندما تتعرض لإصابة حادة في الجسم أو مضاعفات مؤلمة معينة توجد فتحة في المهاد لتنقل المعلومات من الجزء المصاب من الجسم، والذي يشعر بالمشكلة ويوصلها إلى الدماغ.
وهذا مهم جداً لأننا نحتاج إليه بعد ذلك من أجل الشفاء، نحتاج إلى فهم أن هناك مشكلة كبيرة، وبالتالي نحتاج إلى الاسترخاء والاعتناء بأنفسنا، وبعد التئام إصابة حادة أو زوال ألم حاد، نعلم أن هذه الحدود يجب أن تغلق.
عند البحث عن الأشخاص الذين يعانون من الألم المزمن على فترات طويلة، وغيرهم ممن يتعرضون لآلام عابرة، اتضح أن هناك فرقاً عصبياً رئيسياً: تلك النافذة في المهاد التي تعمل في توصيل الرسائل من مكان المشكلة في الجسم إلى الدماغ ظلت مفتوحة لفترة طويلة حتى بعد زوال الألم الحاد.
وجد فريق من الباحثين وفقاً لموقع ABC.net، انخفاضاً في حجم المهاد بالكامل، ما أدى إلى انخفاض ناقل عصبي معين وهو حمض جاما أمينوبيوتيريك، أو GABA.
وما يعنيه هذا هو أن هذه الحدود المفتوحة دائماً في دماغ الأشخاص الذين يعانون من ألم مستمر ستكون مسؤولة عن تضخيم كل إشارة، ما ينتج عنه الشعور بالألم، وهكذا دواليك.
تأثير طويل المدى على الذاكرة
لا يتأثر المزاج العام فقط بالألم المزمن، فهو لا يغير كيفية عمل أدمغتنا فحسب، بل يغير الهيكل الفعلي للدماغ أيضاً.
وبحسب دراسة علمية أجرتها جامعة ألبرتا عام 2007، عن معالجة الذاكرة لدى مرضى الألم المزمن، اتضح أن ثلثي المشاركين يعانون من مشاكل في الذاكرة تمتد معهم خلال حياتهم وفقاً لوتيرة الألم.
وفي الأيام التي كان الألم فيها منخفضاً، كانوا قادرين على أداء المهام بشكل أكثر فاعلية وتجاوباً، بينما في أيام الألم الشديد كان المشاركون يكافحون من أجل القيام بأي إنجاز.
وخلصت الدراسة أيضاً إلى أن "الألم قد يعطل الحفاظ على تتبع الذاكرة المطلوب للاحتفاظ بالمعلومات للمعالجة والاحتفاظ بها للتخزين في مخازن الذاكرة طويلة المدى".
وإضافة لذلك، يقلل الألم المزمن المادة الرمادية في الدماغ، وهي المادة التي تتحكم في ذاكرتنا، جنباً إلى جنب مع كيفية تعلُّمنا عن العالم الخارجي، وكيف نعالج المعلومات وكيف نشكل الأفكار وما مدى انتباهنا.
ووجدت دراسة علمية أخرى نشرها موقع NCBI عام 2004، حول فقدان المادة الرمادية في الدماغ عند مرضى الألم المزمن، أنهم عادة ما يفقدون بسبب الألم نفس الكمية من المادة الرمادية التي يتم فقدها خلال 10 إلى 20 عاماً من الشيخوخة الطبيعية.
واكتشفوا أيضاً أنه كلما طالت مدة شعورك بألم مزمن زاد فقدان المادة الرمادية، وكان انخفاض الحجم مرتبطاً بمدة الألم، بواقع فقدان 1.3 سم مكعب من المادة الرمادية لكل عام من الألم المزمن".
وبسبب فقدان المادة الرمادية، يمكن لمن يعانون من الألم الحاد أن يصارعوا أمراض الذاكرة والمعاناة من صعوبة التركيز على مهمة واحدة، وكذلك التفكير في المشكلات والتوصل إلى حلول منطقية وغير ذلك من مهارات التفكير والذاكرة.
تغييرات في المشاعر والعواطف والقدرة على التعبير
ووجد الباحثون أيضاً أن الأشخاص الذين يعانون من ألم مزمن عانوا من انخفاض في حجم قشرة الفص الجبهي، وهي منطقة من الدماغ تنظِّم العواطف والتعبير عن الشخصية والسلوك الاجتماعي. وهذا يؤدي إلى مزيد من الانخفاض في الناقل العصبي GABA.
ويعاني المصاب بالألم المزمن من تضخيم كل عاطفة وكل إدراك يعانيه. وهو يتوقع أكثر من غيره التعرُّض للألم، ما يضيف عليه عبء الكثير من مشاعر الخوف والقلق المزمن أيضاً، وعادة لا يمكنهم إخماد هذه المشاعر لأن قشرة الفص الجبهي تكون قد فقدت قدرتها على إخماد هذه الأفكار.
وبحسب موقع ABC.net فإن القلق والاكتئاب والأفكار الانتحارية يمكن أن تكون مشاكل كبيرة لأولئك الذين يعيشون مع الألم المزمن، إذ يحاول 20% من المصابين بالآلام المزمنة الانتحار في مرحلة من حياتهم.
وبالرغم من أن التفاعل بين خلايا المخ يتضرر في أدمغة الأشخاص الذين يعانون من الألم المزمن، لكن بطريقة ما يمكن تغيير ذلك وعكسه. إذ يمكن بالفعل إغلاق نافذة المهاد المسؤولة عن تفاقم المشكلة، ويمكن فعل ذلك من خلال ردود الفعل العصبية وإجراء بعض الأبحاث التي تعتمد على الإيهام بالعلاج.
تغيير مفهوم الشخص عن الألم يمكن أن يكون الحلّ
خلال البحث عن الأشخاص الذين يعانون من هشاشة العظام، اكتشفت الدكتورة تاشا ستانتون من جامعة جنوب أستراليا أن هناك العديد من العوامل المدهشة التي تؤثر على الألم، بما في ذلك الطريقة التي ينظر بها الشخص إلى جسده.
وقالت وفقاً لموقع ABC "إذا أعطينا الأشخاص [المصابين بالتهاب المفاصل] صوراً لأيديهم بأحجام مختلفة، وقلنا من فضلك اختر أيهما صورة أقرب ليدك، فسيختارون الصورة الأصغر بشكل ملحوظ". وهذا يشير إلى وجود تغيير في تصورهم لحجم جزء الجسم المصاب بالألم.
لكن الأمر لا يقتصر على ذلك، فنحن نرى أيضاً مشاكل في إدراكهم لحاسة اللمس، إنهم ليسوا جيدين جداً في تحديد المكان الذي يتم لمسهم فيه. وتقول ستانتون إن هذه الاختبارات تقترح أن الأشخاص الذين يعانون من الألم المزمن لديهم معلومات خاصة بالموقع وحجم مكان الألم بشكل مختلف عن الواقع، وهي تأمل في استخدام هذه المعلومات الجديدة لتطوير علاجات جديدة.
ووفقاً لستانتون، يدعم البحث أدلة أخرى تشير إلى أن المعلومات من حاسة ما- مثل اللمس أو الرؤية- يمكن أن تعدل المعلومات التي تأتي من حاسة أخرى. إذ "يأخذ دماغنا المعلومات من كل هذه الحواس المختلفة من اللمس، من الصوت، من الرؤية، من الحركة. ويجمع كل هذه الأشياء معاً حتى يخلق تصوراً أو شعوراً بجسمنا"؛ لذلك من المنطقي أن تتبنى العلاجات تلك الطبيعة متعددة الحواس في العلوم الجديدة لعلاج مشاكل الألم طويل المدى.