ربما لا يوجد حديث الآن أهم وأكبر من لقاحات فيروس كورونا ومدى فاعليتها وإمكانية أن تنهي هذا الكابوس الذي تعيشه البشرية منذ قرابة العام. ووسط هذا الاهتمام، ظهرت بعض علامات القلق من إمكانية تحور فيروس كورونا بطريقة تجعله يقاوم اللقاح، في ظل ظهور سلالة جديدة للمرض في بريطانيا.
المقاومة ضد اللقاحات لم تحدث إلا نادراً في التاريخ طوال قرن من الزمان. وكما ساعدتنا اللقاحات في القضاء على مرض الجدري، فإننا نأمل أن تساعدنا في القضاء على مرض كوفيد-19 في القريب العاجل أيضاً.
في المقابل، استطاعت البكتيريا تطوير مقاومة لكل مضاد حيوي ابتكره البشر تقريباً، وربما تظهر هذه المقاومة بعد وقت قصير من الاستخدام. على سبيل المثال، ظهرت سلالات مقاومة للبنسلين، أول مضاد حيوي في التاريخ، خلال ست سنوات فقط.
لذلك، وفي حين أن مقاومة المضادات الحيوية تعد مشكلة عالمية كبيرة لدرجة إمكانية أن تصبح بعض أنواع العدوى الشائعة قريباً غير قابلة للعلاج، إلا أننا نلاحظ أن اللقاحات التي تم تطويرها منذ ما يقرب من قرن من الزمان لا تزال تحمينا من الأمراض الفتاكة.
فما سر هذا الاختلاف؟ ولماذا لا نشهد هذه المقاومة الشديدة في اللقاحات مثل المضادات الحيوية؟ الإجابة تحتاج تسليط الضوء على الاختلافات الجوهرية بين آليات عمل الأدوية واللقاحات.
ما هي مقاومة الفيروسات والبكتيريا؟
لكن قبل التطرق لهذه التفاصيل، علينا أن نعرف ما المقصود بمصطلح المقاومة وكيف تنشأ.
أثناء حدوث العدوى، تتكاثر الفيروسات والبكتيريا بسرعة كبيرة. في هذه العملية، يقومون بنسخ موادهم الجينية ملايين المرات، وأثناء القيام بذلك، غالباً ما تحدث الأخطاء، ومع كل خطأ يحدث تغيير ما في تركيبتهم الجينية. هذه الأخطاء هي ما نطلق عليها الطفرات.
الأمر يشبه قيامك بنسخ مقالة ما آلاف المرات بسرعة شديدة على حاسوبك. بالتأكيد ستقع منك بعض الأخطاء في عملية النسخ هذه، وستكتشف أنك ضغطت على بعض الأحرف بطريقة خاطئة.
في كثير من الأحيان، يكون للطفرات تأثير ضئيل أو معدوم أو تكون ضارة للغاية لفعالية الفيروس نفسه. لكن المشكلة تظهر في بعض الأحيان النادرة عندما تكون الفيروسات والبكتيريا محظوظة، تتسبب إحدى هذه الطفرات في منع المضاد الحيوي من الدخول إلى الخلية الفيروسية أو البكتيرية أو تتسبب في تغيير الموقع الذي يرتبط فيه المضاد الحيوية أو الجسم المضاد على سطح الفيروس، مما يمنعها من العمل كما ينبغي وقتل الفيروس.
هذا النوع من الطفرات يطلق عليه اسم "الطفرات المقاومة"، وتعد كابوساً للبشر في حربهم ضد الميكروبات والعدوى.
الفرق بين الأجسام المضادة والمضاد الحيوي
نعود الآن إلى الاختلافات في آلية العمل بين اللقاحات والمضادات الحيوية. تعمل اللقاحات عن طريق إدخال جزء غير ضار من العامل الممرض، يسمى "مستضد"، في الجسم. هذا الجزء يعمل على تدريب جهاز المناعة عند البشر على إنتاج بروتينات معينة أو أجسام مضادة ترتبط بالمستضد على وجه التحديد.
كذلك يحفز المستضد إنتاج خلايا دم بيضاء تسمى الخلايا التائية، والتي يمكنها تدمير الخلايا المصابة وتساعد في إنتاج الأجسام المضادة نفسها. من خلال الارتباط بالمستضدات، يمكن للأجسام المضادة تدمير مسببات الأمراض أو منعها من دخول الخلايا البشرية.
النقطة الهامة هنا أن جهاز المناعة لا ينتج جسماً مضاداً واحداً فحسب، بل ينتج مئات الأجسام المضادة المختلفة، كل منها يستهدف أجزاء مختلفة من المستضد. لذلك، من أجل حدوث مقاومة، لابد من وقوع مئات الطفرات لوقف عمل مئات الأجسام المضادة. هذا أمر صعب جداً رغم أنه ليس مستحيلاً تماماً أيضاً.
في المقابل، فإن المضادات الحيوية أو مضادات الفيروسات، عادة ما تكون جزيئات صغيرة مهمتها تثبيط إنزيم أو بروتين معين داحل الفيروس أو البكتيريا، والذي بدونه لا يستطيع العامل الممرض البقاء على قيد الحياة أو التكاثر. ونتيجة لذلك، تتطلب مقاومة الأدوية عادةً وقوع طفرة واحدة في موقع واحد فقط.
في المضادات الحيوية، يمكن تقليل احتمالية المقاومة من خلال استخدام العديد من المضادات الحيوية في نفس الوقت، وهي استراتيجية تسمى العلاج المركب والتي تُستخدم لعلاج فيروس نقص المناعة البشرية والسل. نفس فكرة وجود مئات الأجسام المضادة التي تهاجم نفس العامل الممرض.
اختلاف أعداد مسببات الأمراض
الفرق الرئيسي الثاني بين المضادات الحيوية واللقاحات يتعلق بتوقيت استخدامها وعدد مسببات الأمراض الموجودة حولها.
تستخدم المضادات الحيوية لعلاج عدوى موجودة بالفعل في جسم الإنسان، وهو ما يعني وجود الملايين من الفيروسات بالفعل في الجسم. لكن اللقاحات تستخدم للوقاية. وهو ما يعني أن الأجسام المضادة التي تنتج بعد تلقي اللقاح تعمل في بداية العدوى عندما تكون أعداد الفيروسات منخفضة.
هذا أمر مهم للغاية، لأن "المقاومة هي لعبة أرقام". فمن غير المرجح أن تحدث طفرة مقاومة أثناء تكاثر عدد قليل من مسببات الأمراض أو الفيروسات، ولكن تزداد فرص حدوثها مع وجود المزيد من مسببات الأمراض.
مقاومة اللقاحات ليست مستحيلة
ما سبق لا يعني أن مقاومة اللقاحات لا تتطور أبداً. فالمثال الأبرز على ذلك هو الإنفلونزا، فبفضل معدل الطفرات العالية، يمكن لفيروس الإنفلونزا أن يراكم بسرعة طفرات كافية بحيث لا تتعرف عليها الأجسام المضادة بعد الآن، وهي عملية تسمى "الانجراف المستضدي".
هذا هو التفسير وراء حاجتنا لتغيير لقاح الإنفلونزا كل عام.
هل نخشى من مقاومة كورونا؟
بالتالي، هل يجب أن نقلق من أن اللقاحات الجديدة لفيروس كورونا ستفقد فعاليتها؟ لحسن الحظ، فإن فيروس كورونا الجديد لديه آلية معينة عند عملية نسخ جيناته تقلل من الأخطاء التي يرتكبها، وهو ما يعني حدوث الطفرات بشكل أقل بكثير من فيروسات الإنفلونزا.
أيضاً، تم التأكيد على أن لقاحات "Oxford / AstraZeneca" و"Pfizer / BioNTech" يمكن أن تحفز بفعالية الأجسام المضادة المرتبطة بحلقات متعددة، مما يؤدي إلى إبطاء تطور المقاومة.
لكن مع هذا، فالحظر واجب. فالأمر كله يتعلق بالأرقام كما ذكرنا، وهو أمر ملفت كون كورونا تحول إلى جائحة أصيب -ولايزال- بها الملايين. وهو ما يعني فرصة أكبر لوجود فيروسات أكثر وبالتالي زيادة احتمالية إصابة شخص بالطفرات المثالية لمقاومة اللقاح.
قد يكون من الضروري بالتالي الحصول على نسخة جديدة من اللقاح لتكوين أجسام مضادة ضد هذه الفيروسات المتحولة. وهذا هو السبب أيضاً في أن محاولة إبقاء أعداد العدوى منخفضة من خلال الوقاية والتباعد الاجتماعي أمر حيوي للحفاظ على عمل اللقاحات لأطول فترة ممكنة.