يوماً بعد يوم تسيطر التكنولوجيا، وبالأخص الهواتف الذكية، على حياتنا بشكل مخيف، بغضّ النظر عن تفاوت أعمارنا أو اختلاف أجناسنا أو وظائفنا، فقد أصبح الكثيرون يعتمدون على هواتفهم في معظم الأمور انطلاقاً من التعبير عن الحب إلى الانفصال، بالإضافة إلى التحقق من أرصدة الحسابات البنكية والبحث عن فرص الاستثمار، وهذ يعني أن الكثير من المهام اليومية أصبح الهاتف الجوال هو وسيلة تنفيذها.
وبلا شك قد لاحظت أثناء تناولك العشاء أو مشاهدتك فيلماً في السينما، أنك أو أحد المتواجدين في المكان يتحقق باستمرار من صندوق بريده الإلكتروني أو يتابع آخر التغريدات على "تويتر".
بالطبع يوجد لما سبق تغييرات إيجابية على حياة الأشخاص، لكن هناك أيضاً جانب مظلم يظهر في التغييرات السلبية التي طرأت عليهم بمعاناتهم من العديد من المشكلات الاجتماعية والنفسية أيضاً، والتي تتمثل إحداها في ظهور اضطراب نفسي يُعرف برهاب فقدان الهاتف الجوال "نوموفوبيا-Nomophobia"، والذي سنتعرف عليه أكثر سوياً.
البداية منذ 8 سنوات فقط
يعني لفظ "النوموفوبيا-Nomophobia" الخوف المرضي من فقدان الهاتف الجوال أو تعطله أو انقطاع تغطية الشبكة عنه وكذلك نسيانه في أي مكان. ويُصاب الشخص الذي يعاني من هذا الاضطراب النفسي بالهلع عندما يعلم بوقوع أحد هذه الأمور.
كان الظهور الأول لهذا المصطلح عام 2010 في دراسة أجراها مكتب البريد البريطاني وكلف بها شركة "يوجوف" البريطانية للأبحاث، للتحقق من انتشار القلق الذي يعاني منه مستخدمو الهاتف الجوال خوفاً من فقدانه.
وتوصلت الدراسة إلى أن 53% من مستخدمي الهواتف الجوالة في بريطانيا يشعرون بالقلق عندما يفقدون هواتفهم، أو تنفد بطارياتها أو تنقطع عنها الشبكة.
وقد خضع لهذه الدراسة 2163 شخصاً، أكد 55% منهم أن السبب الرئيسي لقلقهم هو رغبتهم في البقاء على اتصال مع أصدقائهم وعائلتهم، كما ظهر أن الإجهاد النفسي الناتج عن رهاب فقدان الهاتف الجوال يتساوى مع أنواع أخرى من الاضطرابات النفسية مثل توتر يوم الزفاف ورهاب الذهاب لطبيب الأسنان.
ما الذي يدفع البشر إلى الالتصاق بهواتفهم؟
نظراً لتقدم الهواتف الذكية الذي لا يتوقف وتحولها إلى بوابة لمجموعة ضخمة من التطبيقات والمواقع الإلكترونية وتعلق الكثير من الذكريات الشخصية بها، صار المستخدمون يمدون هويتهم الشخصية إلى هواتفهم، من هنا زادت أهميتها بشكل غير مسبوق وتحول الخوف من البعد عنها إلى خوف مرضي.
والمقلق توقع العديد من الباحثين أن الأمر سيزداد صعوبة في المستقبل مع زيادة الاعتماد على التكنولوجيا، ما يشير إلى أهمية وجوب الوعي بعدم الاعتماد المفرط على الهواتف الذكية، دون أن يحرمنا ذلك من ذكاء التكنولوجيا.
أما علمياً فوجد علماء النفس أن أدمغتنا تتفاعل باستمرار مع إشعارات الهاتف المتتالية طوال اليوم، ويُنشط ذلك مراكز المكافأة في الدماغ المسؤولة عن إنتاج الدوبامين، وهي نفس المراكز التي تنشط عندما الأكل وممارسة الجنس وشرب الكحوليات وتعاطي المخدرات، حسبما يؤكد ديفيد غرينفيلد، الأستاذ المساعد في قسم الطب النفسي بجامعة كونيتيكت الأميركية.
بينما كان للدكتور صموئيل فيسيير، الأستاذ المساعد في قسم الطب النفسي بكلية الطب جامعة مكغيل الكندية، رأي آخر، فهو يرى أن الوقت الزائد الذي نقضيه مع هواتفنا الذكية ليس سببه الإدمان على الإشعارات، وإنما لتطور الحاجة لدينا للتواصل مع الآخرين، إلى جانب التوقعات الاجتماعية المرتفعة وما يعطيه لنا نظام المكافأة في أدمغتنا.
ونتيجة لأن البشر يبحثون دائماً عن أسهل الطرق للقيام بالأشياء، فهم يرغبون في التواصل مع بذل أدنى مجهود ممكن، وهذا ما توفره لهم الهواتف الذكية.
8 أعراض تؤكد الوصول لمرحلة الخطر
بما أن الارتباط بالهواتف الذكية أصبح سمة العصر الذي نعيش فيه، فربما يختلط الأمر على الكثير من الأشخاص ويقفون حائرين أمام سؤال هل وقعوا في الإصابة برهاب الابتعاد عنها أم لا؟ وهذا ما سنحاول توضيحه بذكر أعراض الإصابة به وهي:
1- الخوف المستمر من نفاد شحن البطارية وشحنها بشكل متكرر دون الحاجة لذلك، بالإضافة لاصطحاب بطاريات إضافية أثناء التواجد في الخارج.
2- الإصابة بنوبة ذعر عند فقدان الهاتف الجوال.
3- التأكد بشكل قهري من تواجد الهاتف الجوال في متناول اليد.
4- التحقق باستمرار من وصول رسائل جديدة، والشعور بالرغبة في الرد عليها فوراً.
5- التوهم بسماع صوت وصول الإشعارات بشكل مستمر، وفي كل مرة يظهر أنه إشعار كاذب.
6- لا تستطيع الاستماع لمن حولك أثناء حديثهم، وتمضي وقتك في مطالعة حساباتك على مواقع التواصل الاجتماعي.
7- عندما تنسى هاتفك في أي مكان وتكون بعيداً عنه، لا تستطيع إكمال مشوارك بل ترجع لأخذه.
8- الإمساك بالهاتف فور الاستيقاظ من النوم، حتى قبل مغادرة السرير.
بعض المصابين به لا يستطيعون مفارقة هواتفهم حتى أثناء ممارسة الجنس
توجد العديد من الدراسات والأبحاث التي أجرتها الجامعات وشركات الخدمات البحثية لرصد رهاب فقدان الهاتف، وكانت النتائج التي توصلت إليها مذهلة بالفعل، وتكشف مدى اقتحام الهواتف لحياتنا الشخصية، فعلى سبيل المثال وجد استطلاع رأي أميركي أن واحداً من كل 10 مستخدمين اعترف باستخدام هاتفه الذكي أثناء ممارسة الجنس.
لم تكن غرفة النوم المكان الوحيد الذي اقتحمته الهواتف الذكية في أكثر اللحظات خصوصية وقدسية، فقد أوضحت دراسة أجراها مركز هاريس التفاعلي الأميركي عام 2013 بهدف دراسة العادات الاستهلاكية لمستخدمي الهواتف الذكية، أن 12% منهم أكدوا استخدامها في دورات المياه، والأمر الأكثر خطورة أن 50% منهم اعترفوا بكتاباتهم الرسائل النصية أثناء القيادة، على الرغم من أن ذلك أخطر بست مرات من القيادة تحت تأثير الكحول.
ووفقاً لدراسة أخرى نشرتها كلية الطب التابعة لجامعة بانغلور الهندية عام 2015، خضع لها 200 طالب بنسبة 47.5% من الإناث و52.5% من الذكور، وجد الباحثون في النتائج أن 93% من الخاضعين للدراسة يبقون هواتفهم إلى جانبهم عند النوم، و59% منهم يستخدمونها أثناء ساعات الدراسة، بالإضافة لوجود 23% منهم يفقدون تركيزهم ويشعرون بالتوتر إذا لم يكن الهاتف بقربهم، أو إذا ما نفد شحن بطاريته.
رغم تعقد الوضع ما زال هناك أمل.. إليك خطوات فعَّالة للعلاج
يُنصح المصابون برهاب فقدان الهواتف بدرجة تؤثر على حياتهم اليومية، أن يلجؤوا لاستشارة طبيب نفسي، ويوضح لنا البروفيسور بيتر فالكاي، مدير قسم الطب والعلاج النفسي بجامعة لودفيغ ماكسيميليانز في ميونيخ، آلية ذلك، بتأكيده أن التغلب على هذا النوع من الفوبيا يكون باتباع العلاج السلوكي المعرفي.
إذ يتعرف المُعالج النفسي على المواقف التي تقف وراء هذا الخوف الشديد من فقدان الهاتف، ثم يحللها بهدوء ويقترح على المريض بعض الحلول الممكنة، وهذا غالباً ما يساعد على تحسُّن حالته بعد بضع جلسات فقط، وأحياناً توصف بعض مضادات الاكتئاب الخفيفة لتسهم في العلاج.
وبشكل عام هناك بعض الخطوات العملية التي يمكن اتباعها مثل:
1- لا تكتب الرسائل النصية أثناء قيادتك للسيارة، ليس فقط لسلامتك وإنما لسلامة الآخرين أيضاً. وإذا ما كنت في حاجة لذلك فقم به قبل أو بعد القيادة.
2- تجنب اصطحاب هاتفك إلى الحمام، فلا مانع من الانتظار لبضع دقائق حتى تقضي حاجتك، وعليك أن تفكر في كمية الجراثيم التي قد تعلق بهاتفك وتنتقل إليك فيما بعد.
3- لا داعي لاستخدام الهاتف الجوال قبل النوم. لا تنسَ أن تحافظ على هذه القاعدة عندما تستيقظ لدخول الحمام. ومن الأفضل أن تضعه في غرفة أخرى، وتستخدم منبها تقليدياً بدلاً من منبه هاتفك.
4- لمراقبة تعافيك، جرب استخدام التطبيقات التي تحسب وتقيد استخدامك للهاتف الذكي.
5- عندما تخرج مع أصدقائك، أغلق هاتفك ولا تنزعج، فلن تفوتك فرصة العمر. وإذا ما كان ضرورياً أن تبقى على اطلاع بأمر مهم فقم بذلك كل 90 دقيقة لفترة أقصاها 5 دقائق.
6- عندما تتقدم في تخلصك من رهاب الخوف من فقدان هاتفك الذكي، جرب أن تتركه مرة في المنزل وتخرج من دونه، حتى لو كان ذلك لفترات قصيرة، فستشعر حينها بأنك تحررت بنسبة كبيرة من سيطرة التكنولوجيا على حياتك.