دراسة حديثة تدحض اعتقاداً خاطئاً حول مضادات الاكتئاب شاع لسنوات. إذ تبين أن عوارض الانسحاب أوسع انتشاراً وأشد وأطول مما تشير إليه الإرشادات الصحية الحالية، وبأن الإقلاع عن هذه الادوية قد يحتاج لسنوات.
ستيفي لويس سيدة بريطانية، ذهبت لمقابلة طبيبها العام ليساعدها في حل مشكلة الأرق بعدما عانت ضغوطاتٍ بسبب انشغالها بإقامة شركة استشارية ناشئة في مجال الأعمال. تمنَّت ستيفي -التي كانت تبلغ من العمر آنذاك 41 عاماً- أن يمنحها الطبيب شيئاً يساعدها على النوم لا مضادات التي الاكتئاب التي كانت بداية لرحة أطول من معاناتها من الأرق.
وقالت: "فاجأني الطبيب بقوله إنني كنت على شفا الاكتئاب السريري، الذي كان يسميه جيل أمي انهياراً عصبياً".
أقراص مضادات الاكتئاب تفرز مادة تحسّن المزاج
وبدلاً من أقراص النوم، مُنِحت وصفة طبية توصي بعقار الباروكيستين الذي يُعَد نوعاً من مضادات الاكتئاب المعروفة باسم مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية (SSRI).
تزيد هذه الأقراص مستوى مادة السيروتونين الكيميائية الدماغية التي تحسن المزاج.
وأوضحت ستيفي: "كنت مصدومة تماماً، لا سيما حين أخبرني أن لديَّ خللاً كيميائياً في دماغي. أمعنت التفكير قبل تناول هذا العقار، لكنِّي تناولته في النهاية، لأنني أصدقه، فهو طبيبي".
ومع ذلك، كانت صدمتها إزاء منحها مضاد الاكتئاب تكاد لا تُذكَر مقارنةً بالرعب الذي انتظرها حين حاولت الإقلاع عن الباروكسيتين.
ولكن مع آخر حبة تناولتها ستيفي بدأت معركة عوارض الانسحاب
لم تكن ستيفي تعلم أنَّ آخر حبة تناولتها كان بداية معركة مدتها 20 عاماً لتنقذ نفسها من قبضة عقار لم تكن قط في حاجةٍ إليه.
عانت خلالها آثاراً جانبية مروعة رفض الأطباء الاعتراف أنها حدثت بسبب عوارض الانسحاب . وأرجعوا سبب حدوثها إلى أعراضها الأصلية.
إذ قيل لها إن مضادات الاكتئاب غير إدمانية، ويمكنها التوقف عن تناولها وقتما شعرت بأنَّها تريد ذلك. لكنها حين حاولت، وجدت نفسها تعاني هجوماً من آثار جانبية مروعة؛ من بينها القلق المفرط والرعب غير المبرر من الأفعال والأشياء والأماكن اليومية.
شعرت في بعض الأحيان أنها ربما جُنّت
لكن كما كُشف في صحيفة The Daily Mail البريطانية يوم الاثنين 1 أكتوبر/تشرين الأول، أشارت دراسةٌ جديدة كبيرة إلى أنَّ ستيفي، البعيدة كل البعد عن الجنون، كانت في الحقيقة، مثل ملايين المرضى، تعاني أعراض انسحاب العقاقير.
وخلصت الدراسة -إحدى أكبر دراسات تقصي حالات الإصابة بأعراض انسحاب مضادات الاكتئاب- أن الظاهرة "أوسع انتشاراً وأشد وأطول" ممَّا كان يعتقده الأطباء.
اعتقاد خاطئ شاع لسنوات بسبب توجيهات المعهد الوطني البريطاني للتميُّز في الصحة والرعاية.
فأعراض الانسحاب قد تتضاعف لدى بعض المقلعين عن الدواء لسنوات
أُجريت الدراسة الحديثة بتكليفٍ من منظمة All-Party Parliamentary Group for Prescribed Drug Dependence، ونُشرت في دورية Addictive Behaviors أو "السلوكيات الإدمانية".
وفحص الباحثون 32 دراسةً نشرت على مر السنوات العشرين الماضية، واستنتجوا أنَّ 56% من كل المرضى الذين يتعاطون مضادات الاكتئاب يعانون أعراض الانسحاب، قال 46% منهم إن أعراض الانسحاب لديهم كانت شديدة.
وقدَّر القائمان على الدراسة أنَّ في إنكلترا وحدها، حيث يتناول سدس البالغين مضادات الاكتئاب، يوجد 4 ملايين شخص ربما يُصابون بالأعراض حين يتوقفون عن تناول العقاقير. أما 1.8 مليون شخص آخر، فقد تتضاعف الأعراض لديهم.
واكتشفا كذلك أنَّ "المرضى عادةً ما يُصابون بالأعراض على مرِّ عدة أسابيع، أو شهور أو مدةٍ أطول"، وقد يُصاب بعضهم بأعراضٍ منهكة لسنوات.
خلاصة تعارض ما توصي به الهيئات الصحية بشأن الأدوية
وأضافا أن هذه الاكتشافات تجعل كلام المعهد الوطني -الذي يقول للأطباء الذين يصفون الأدوية إنَّ أعراض الانسحاب "يمكن أن تكون شديدة"، لكنَّها "عادة ما تكون معتدلةً وتُعالَج ذاتياً في غضون أسبوع واحد"- محض هراء.
وقال جيمس ديفيز -أحد واضعي الورقة البحثية الجديدة، والقارئ في الأنثروبولوجيا الطبية والصحة العقلية بجامعة روهامبتون- إنَّ التوجيهات الحالية "عفا عليها الزمن، ولا تحترم قاعدة الأدلة".
فضلاً عن أنَّ التكلفة الشخصية التي يتحملها المرضى لا يمكن حسابها؛ إذ قال ديفيز إنَّ دليل التوجيهات الخاطئة يجعل "العديد من الأطباء يخطئون في تشخيص أعراض الانسحاب على أنها انتكاسة، مما يتسبب في وصف علاج غير ضروري وضار على المدى الطويل".
إذ تعتبر العوارض انتكاسات تحتاج المزيد من الأدوية!
وذلك لأنَّ الناس حين يقلعون عن مضادات الاكتئاب ثم يُصابون بأعراض الانسحاب، "يبحث الأطباء في دليل المعهد ويستنتجون أنَّ هذه الأعراض لا يمكن أن تكون أعراض انسحاب".
وأضاف: "عادةً ما تُقابَل أعراض الانسحاب لدى المرض بالإنكار أو التجاهل أو إساءة تشخيصها على أنَّها انتكاسةٌ، وهذه النقطة هي الأكثر إثارة للقلق، فعندها يُعاد تناول العقاقير".
ومن ثَمَّ، تضاعف طول المدة التي يتناول فيها الناس العقاقير منذ صدور الإرشادات التوجيهية في عام 2004.
الأمر الذي أدى إلى مضاعفة عدد متعاطي هذه الأدوية
وأشار ديفيز إلى أنَّ الإرشادات التوجيهية الحالية أسهمت في مضاعفة عدد البالغين الذين يتعاطون مضادات الاكتئاب في إنكلترا على مرِّ العقد الماضي، في تصاعدٍ وصفه بأنَّه لا يقل عن "كارثة صحية عامة".
تجدر الإشارة إلى أن العديد من الناس قالوا إن هذه الأدوية ساعدتهم. ومع ذلك، ليس هناك أي دليل علمي على أن هذه العقاقير تفعل ذلك عن طريق عكس "التوازن الكيميائي".
وثمة دليلٌ على أنَّ معظمها ليس أكثر فائدة من الأدوية الوهمية
وقال ديفيز: "لكنها على عكس الأدوية الوهمية، تسبب آثاراً جانبية ومشكلات انسحاب".
قُدِّم تقييم الأدلة الجديد إلى هيئة الصحة العامة بإنكلترا، التي تجري مراجعة على الاعتماد على الحبوب التي يصفها الأطباء، بدأتها في يناير/كانون الثاني.
وأُرسِل التقييم كذلك إلى المعهد الوطني للتميُّز في الصحة والرعاية الذي يعتمد دليله الإرشادي الحالي اعتماداً رئيسياً على ورقةٍ بحثية قُدِّمت في ندوةٍ متعلقة بطب النفس.
الندوة كانت عن "متلازمة وقف مضاد الاكتئاب" ، وأُقيمت في مدينة فينيكس الأميركية في ديسمبر/كانون الأول من عام 1996، وكانت ممولةً من شركة Eli Lilly للعقاقير.
وقال ديفيز: "شكَّلت هذه الندوة إلى حدٍ كبير فهم انسحاب مضادات الاكتئاب". لكن لا هذه الورقة، ولا أي واحدة لاحقة يعول عليها من المعهد "تشير إلى مصدرٍ واحد يدعم ادعاء استمرار الأعراض لأسبوعٍ واحد فقط".
وأضاف جون ريد، أستاذ علم النفس السريري في جامعة إيست لندن والباحث الآخر المشارك في الورقة البحثية الجديدة: "بحثنا بدقة عن دليل لدعم نصيحة المعهد، لكنَّنا لم نجد".
وأضاف: "محال أن يضعوا النصيحة نفسها مجدداً حالما يقرأوا هذه الدراسة الجديدة".
آن الأوان لتحديث المعلومات الطبية والإرشادات
رحَّبت جوانا مونسريف، الطبيبة النفسية وأحد أبرز نقاد الإفراط في تناول مضادات الاكتئاب بالبحث، قائلة إنَّ الهيئات الحكومية الصحية يجب أن تُحدِّث إرشاداتها.
وقالت: "تُظهر هذه الورقة أنَّ بعض الوثائق الرسمية والأطباء النفسيين المحترفين لم يأخذوا هذه المشكلة على محمل الجد، ولم يبذلوا جهداً كافياً في دراستها، ولم يريدوا مواجهة المشكلات التي يمكن أن تسببها هذه العقاقير".
وأضافت: "نعطي الناس هذه العقاقير لسنوات دون انقطاع، ولم نتكبد عناء معرفة ما يحدث لهم، وكيف يؤثر هذا في أجسادهم، وماذا يحدث حين يتوقف الناس عن تناولها. يبدو هذا موقفاً مروعاً ومخزياً".
فالتخلص من بعض هذه الأدوية بات أصعب من المرض أحياناً
وتعتقد جوانا أن الكثيرين ما كانوا ليبدأوا في تناول مضادات الاكتئاب لو عرفوا المعركة التي يمكن أن يخوضوها للتخلص منها.
وقالت: "هناك الكثير من الناس الذين يتواصلون معي يواجهون صعوبةً بالغة للتخلص من هذه الأدوية، ويشعرون بغضب شديد لأنَّ ذلك لم يوُضَّح لهم".
وأضافت: "صارت هذه البيانات متاحة الآن، ويحتاج كل من الطبيب والمريض أن يكون أكثر فضولاً بخصوص بدء مضادات الاكتئاب في المقام الأول؛ لأنَّه بات من الواضح تماماً أن التخلص منها ليس سهلاً بالنسبة لعدد كبير من الناس".
المشورة الصحية أفضل بكثير من بعض الأدوية
ومن بين المرضى الذين عانوا للتخلُّص من هذه العقاقير ستيفي لويس، إذ قررت وقف الباروكستين للمرة الأولى بعد تناوله لخمسة أشهر، لكن في غضون أيام قليلة بدأت تعاني "الغثيان والدوار"، اللذين استمرا لأسبوعين.
لم يكن لديها أي فكرة أن هذا متعلق بالعقاقير، وكذلك طبيبها الذي شخَّص حالتها على أنَّها التهابٌ في الأذن الداخلية، وهو اضطراب داخل الأذن يؤثر على الاتزان.
وفي الحقيقة، فالدوار هو أحد الآثار الجانبية الموثَّقة التي تنتج عن وقف تناول مضادات الاكتئاب فجأة.
وفي مارس/آذار من عام 1998، عادت ستيفي على مضض إلى تناول العقار بعدما تعرَّضت لثلاثة إجهاضات وموت والدتها.
تعرضت ستيفي لصدمة عندما أدركت أنها مدمنة وصفة طبية
وتقول ستيفي التي تبلغ 63 عاماً الآن: "عند التأمُّل في الماضي، أجد أنَّ كل ما كنت أحتاج إليه حقاً هو المشورة للتغلُّب على الحزن. من السخيف، في ظل ما مررت به، أن يظن أحدهم أنني كنت أشعر بالحزن بسبب خللٍ كيميائي في عقلي".
وبعد عام من تناول الباروكستين، قررت ستيفي مجدداً أن تقلع، وقالت: "لكنَّ هذه المرة لم أستطع".
وكلما حاولت، شعرت بعد أيام من الإقلاع بالقلق الشديد والبكاء الذي يتطور إلى أرق. وقال طبيبها إنَّ هذا كان اضطراباً ناتجاً عن قلق، وأوصاها بالاستمرار في تناول الحبوب.
ولكن في عام 2002، حين تواصلت مع مجموعة دعم عبر الإنترنت، أدركت أنها أصبحت معتمدة على العقار، وأنَّها كانت تمر بأعراض انسحابٍ عن إيقافه.
وقال ستيفي: "كانت صدمة أن يقال لي إنني على حافة انهيار عصبي، ثم صُدمت مرةً أخرى حين قيل لي إن لديَّ خللاً كيميائياً في دماغي، لقد كنت مدمنة وصفة طبية".
واحتاجت 15 عاماً لتُحرَّر من إدمانها الذي سيطر على حياتها
استغرق تحرُّرها من الباروكستين 15 عاماً؛ إذ حاولت تقليل جرعتها بمرور الوقت، ومساعدة طبيب جديد، مستخدمةً حقناً مصممة خصيصاً لإعطاء كميات أقل من الباروكستين في حالةٍ سائلة.
وقالت: "أنا قوية وقادرة وقوية الإرادة. لم أرد تناول هذه الأشياء، لكني لم أستطع التخلص منها".
تمكنت من الحصول على أقل من 3.56 غرام من السائل المكافيء قبل أن تظهر أعراض الانسحاب مجدداً.
وقالت إنَّ هذا الإجهاد هو أحد أسباب انفصالها، وأضافت: "خلال 36 ساعة، كنت أتحول من إنسانةٍ عادية إلى أخرى ضعيفٍ باكية".
وحين قابلت ستيفي شريكاً جديداً في عام 2006، قررت التمسُّك بأقل جرعة يمكن أن تأخذها دون إثارة أعراض الانسحاب، وقالت: "لم أرد وضع الرجل المسكين في هذا كله".
وفي مارس/آذار من عام 2013، واتتها الشجاعة لتوقف حتى هذه الجرعة المنخفضة. ثم مرَّت بـ "أفظع انسحاب"، إذ أصابها اضطرابٍ حركي حاد لدرجة أنَّها كانت بالكاد تستطيع السير.
وتذكَّرت ذلك قائلةً: "عانيت أيضاً قلقاً شديداً ومروعاً حقاً. كانت أمواجٌ من الخوف تهيج داخلي بسبب أمور عادية يومية مثل تناول الطعام، حتى بعض الروائح والأصوات كانت تثيرها".
وأضافت: "يبدو ذلك جنونياً، لكنَّي لم أكن أستطع حتى الذهاب إلى ردهتي، ثمة شيء في هذه الغرفة كان يُثير خوفاً حقيقياً داخلي".
والآن تعمل جاهدة للتوعية بشأنه
وفي سبتمبر/أيلول من عام 2014، تزوجت ستيفي مجدداً، وهذه المرة من روغر الذي يبلغ الآن 75 عاماً، وهو مدير خدمات معاشات متقاعد. كانا يقاتلان العقار معاً. وتصفه ستيفي بأنَّه "قديس".
مرَّت ستيفي بثلاث سنوات مضطربة أخرى قبل أن يبدأ الكابوس في الاختفاء، ثم سنة أخرى قبل أن تشعر أنها طبيعية بالكامل مجدداً.
صارت أخيراً حرةً من آثار الانسحاب منذ 18 شهراً، بعدما أمضت سنواتٍ في محاربة عقار تعتقد أنها لم يجب أن تُمنَحه قط.
ولا غرابة في أن تقول إنَّها تشعر "بخذلان الشديد" من الأطباء المحترفين، لكنَّها تركز طاقتها على حملات التوعية والضغط لأجل التغيير في دليل إرشادات الهيئات الصحية الرسمية.
لكن تغيير السياسات يحتاج لسنين طويلة ودراسات
وقال متحدثٌ رسمي باسم المعهد الوطني لمجلة Good Health البريطانية إنَّ دليل الإرشادات المُحدَّث لم ينتهِ بعد.
وأضاف: "تتضمن عملية تطوير دليل الإرشادات ومراجعته لدينا بحثاً دقيقاً عن الأدلة ذات الصلة"، مُضيفاً أنَّ نشر دليل الإرشادات المُحدَّث "ليس وشيكاً".