أخبرت مالك المحل، جورج شير علي، بأنِّي قدمتُ إلى متجره مسبقاً منذ عدة أعوامٍ مضت، وتطرطقت أذناه. قال لي، ماداً يده لعمودٍ من الكرَّاسات الدراسية القديمة: "قل لي ما اشتريته. وسأخبِّرك تحديداً متى أتيت هنا".
قلت إنِّي دخلت متجره للفن والمطبوعات الذي يحمل اسم L'Araba Fenice أي "العنقاء العربية" منذ نحو ثمانية أعوامٍ خلال رحلةٍ قمت بها إلى لياه، وهي بلدةٌ تقع بإقليم لداخ في ولاية جامو وكشمير أقصى شمال الهند. اشتريت بطاقتين بريديتين أو ثلاث، كما فعل صديقٌ لي أتى بصحبتي إلى المحل.
قلَّب مالك المحل في صفحات بضع كرَّاساتٍ ذات صفحاتٍ مطويَّة الأطراف لعدة دقائق قبل أن يعلن بحسم: "هذا أنت. خمس بطاقاتٍ بريدية". وأشار لقيدٍ مدوَّن بخط اليد في سجل حسابٍ يعود ليوم 19 سبتمبر/أيلول عام 2010. كان ذلك منذ ثمانية أعوامٍ في اليوم الذي زُرت فيه متجره أول مرة.
ذاكرة لا تموت بهذه البلدة
لياه، تِلك التي كانت يوماً مقرَّ الحُكم لمملكةٍ بوذية غابرة، مكانٌ ذو ذاكرةٍ تبدو أنَّها لا تموت، أبديةٌ لا تشيب مثلها مثل الجبال التي تحوِّطها. منطقة لداخ، متناثرة الأشجار الحور والمهيمِن على مشهدها جبال الهيمالايا قد تغيَّرت بشكلٍ ملحوظ على مدار العِقد الماضي، إذ رحَّبت بمزيدٍ من السياح، والمطاعم، وبيوت الضيافة، حسب ما ذكرت صحيفة The New York Times الأميركية.
لكنَّها تظل وجهةً مُدهشة للمسافر الذي يتمتع بحِس المغامرة، عامرةً بمشاهد آسرة، وسكان كرام وودودين، وأديرةٍ وأماكن مقدَّسة يسهل الوصول إليها بالقرب من المنطقة. ولا يضرُّ أنَّ كُل ذلك يُمكِن فِعله بتكلفةٍ مقبولة إلى حد ما.
الوصول إلى البلدة
بضع نصائحٍ لتخطيط رحلتك: الأرجح أنَّك ستحبِّذ الوصول إليها جواً. تستغرق الرحلة من نيودلهي إلى مطار كوشوك باكولا ريمبوشي في بلدة لياه نحو الساعة، مقارنةً بـ 25 ساعة تستغرقها الرحلة بالسيارة. من حسن الحظ أنَّ الرحلات الجوية رخيصة. فقد اشتريتُ تذكرة ذهابٍ فقط مباشرةً إلى لياه عبر خطوط Air India الجوية مقابل نحو 2800 روبية هندية، أو أقل من 40 دولاراً.
وبسبب المناخ الجوي غير المتوقَّع على ارتفاعٍ كهذا (إذ تقع لياه على ارتفاع نحو 11500 قدماً، أي 3505 أمتار، عن سطح البحر)، فإنَّ الرحلات تصل وتقلع منها في الصباح. لا تُخطِّط إذن باستقلال رحلةٍ مسائية.
بعد وصولي إلى دلهي، قضيت بضعة أيامٍ في زيارة معالم المدينة والتعوُّد على فرق الوقت قبل التوجُّه إلى لياه مبكراً ذات صباح. كانت رحلتي القصيرة تِلك جزءاً من رحلةٍ أطول إلى الهند، لأماكنٍ سوف أكتُب عنها في مقالاتٍ مقبلة. يمكنِك توقُّع قدرٍ لا بأس به من البيروقراطية عندما يتعلَّق الأمر بالسفر في هذه البلاد. أبقٍ معك نسخاً من دليل مسار رحلتك، وصورةً من البطاقة الائتمانية التي استخدمتها لشراء تذكرتك، أو أبقِ معك البطاقة ذاتها.
التصاريح الخاصة.. هنا ستحتاجها
رُغم المناورات الإقليمية بين الصين، وباكستان، والهند على منطقة كشمير المُتنازَع عليها، فإنَّك لست بحاجةٍ لأي تأشيرةٍ أو تصريح من نوعٍ خاص لزيارة لياه، أو المناطق الواقعة على الطريق السريعة بين سريناغار ولياه الممتدَّة غرباً من المدينة، تكفي لذلك تأشيرتك لدخول الهند.
لكن إذا أردت الذهاب لمناطق معيَّنة مثل وادي نوبرا، شمال لياه، فستحتاج حينها للحصول على تصريح تنقل داخلي يطلق عليه Inner Line Permit. يتوقَّف سعر التصريح على طول المدَّة، لكنَّه يقارب 400 إلى 500 روبية (5.57 إلى 7 دولارت).
الإقامة في البلدة
أقلَّني أصدقاءٌ كنت قد التقيت بهم في رحلتي السابقة إلى لياه، وهم توندوب، وهو من سكَّان المنطقة المحليين، وسينا، وهي مواطنة سويسرية تأتي كثيراً للزيارة، من المطار إلى حيثُ أقمت، في فندق Spic-n-Span على طريق لياه القديم "Old Leh Road" (تكلِّف الغرفة المزدوجة فيه نحو 45 إلى 60 دولاراً في الليلة).
هناك المئات من الفنادق وبيوت الضيافة في لياه تناسب أسعارها أي ميزانية، لكنِّي أنصحك بالنزول في مكانٍ على بعد مسافةٍ يمكن قطعها مشياً إلى البازار الرئيسي، وهو مركز نشاطات التسوُّق والطعام في البلدة.
البازار الرئيسي.. مركز الأنشطة
إنَّ البازار وجهةٌ جيدة لأول يومٌ لك في لياه، من مصلحتك التمهُّل في البدء وشُرب الكثير من الماء فيما يتكيَّف جسدك مع التغيُّر الملحوظ في الارتفاع. يتزيَّن البازار، الذي كان يوماً مفتوحاً للسيارات، لكن أصبح الآن ممشى للمارة فقط، براياتٍ من المسجد المحلِّي وأعلام صلاةٍ بوذية ملوَّنة.
تختال كلاب الشارع بكسلٍ وسط الباعة المُنادين على المشمش البلدي (سيُباع لك 200 غرام، أي نحو نصف رطل، من المشمش بحوالي 100 روبية ما يعادل 1.4 دولار)، فيما يُناديك الباعة من واجهات محالهم، يعدونك بأفضل أسعارٍ مقابل أوشحة البشمين والمنتجات المصنوعة يدوياً. وعن بعد، يُشرِف قصر لياه ذو الطوابق التسعة على النشاط المُحتدم بالأسفل.
لا تنس شراء "البشمين"
بعد مرورَك عبر مدخل سوق اللاجئين التبتيين المكتظ، ستجد أمامك المتحف الآسيوي المركزي (رسم الدخول 50 روبية أي 0.7 دولارت) وهو دليلٌ صغير لكن يستحقّ الاطلاع عن تاريخ وعادات المنطقة.
لا تكتمل أي رحلةٍ إلى لياه دون شراء وشاحٍ من نوعٍ ما (سيُساعدك في التغلب على الجو البارد والأتربة أيضاً)، وشراء هذا الوشاح في حد ذاتها جزءٌ من التجربة. أنتَ لا تدخُل متجراً وتشتري وشاحاً ببساطة، بل إنَّها علاقةٌ تنشأ.
أجلسني ماجد، الواقف على متجرٍ Pashmina House أي "بيت البشمين" على الطرف الشمالي من البازار (ليس موقع المحل على تطبيق Google Maps دقيقاً، إذ إنَّه يقع تجاه الشمال أكثر من الموقع الموضَّح)، بصحبة قدحٍ من الشاي وأخبرني، في حديثٍ مطول، تفاصيل عن أصل البشمين، أو الكشمير المُحاك من صوف ماعز البشمين. مرَّت نصف ساعةٍ على الأقل قبل أن يُفتَح موضوع السعر من الأساس وحتى عندئذٍ تمَّ الأمر بطريقةٍ شبه مقيت، إذ كانت أرقام تكتب على آلةٍ حاسبة ويجرى تناقلها ذهاباً وإياباً بيني وبينه.
وقال لي: "دعني أقل لك الآتي، يا صديقي. إنَّ البشمين المصنوع آلياً يحتوي على نسبة 10% من النايلون. لن يقول لَك غيري هذا. لكنَّها الحقيقة". بلغ سعر أوشحة البشمين المصنوعة يدوياً ما فاض عن 8000 روبية، أي أكثر من 100 دولار، بخلاف أخواتها المُحاكة آلياً التي يبلغ سعرها نصف ذلك. اشتريت وشاح بشمين مُحاكاً آلياً لنفسي (صدقاً ظننتُ النوعين رائعين، إذ كان ملمس كليهما كما لو كانا سحاباً ركامياً مغزولاً). ووشاحين فائقي النعومة بديعيّ النقش من صوف مارينو مقابل 2500 روبية (35 دولاراً) للوشاح الواحد .
بضع نصائح للتحاور مع الباعة: مع أنَّ تِلك ليست الطريقة الأميركية، حاول قدر ما بوسعك أن تجرِّب الأمر. فكِّر بالعملية كما لو كانت رقصةً أو مغازلة، لا أنَّها خصومة. لا تتسرَّع بالتحدُّث بالأرقام. دردش، احتسِ بعض الشاي، واسترخِ. إذا لم يعجبك السعر، تصرَّف كما لو أنَّ قلبك فُطِر، وسر مبتعداً. فاوِض على السعر بضراوة، لكن إذا ما كنت تعرف بدايةً أنَّك ستشتري سلعةً ما، دع البائع يشعر بأنه قد كسب، فإنَّهم على الأرجح بحاجةٍ للخمس أو 10 دولارات الإضافية أكثر منك.
الماء وأشياء أخرى لذيذة
إنَّ استكشاف مكانٍ جديد ذي هواءٍ خفيف سيتركك تجاهِد للتنفس مرةً بعد أخرى. توقَّف وخُد نَفَسك، واملأ زجاجة مياهك لدى Dzomsa، وهو محلٌ صغير ذو وعي بيئي يقدم خدمة إعادة ملء زجاجتك بمياهٍ معقَّمة (أحضر زجاجتك الخاصة معك) مقابل 7 روبيات (0.10 دولار) لا غير، بالإضافة لبعض المنتجات الحرفية المحلية. اشتريت مِن هناك برطماناً من مربى المشمش الحلو مقابل 130 روبية (1.8 دولار). تقدِّم صاحبة المحل المبتهجة كذلك، وهي امرأةٌ تُدعَى ستانزين، خدمة غسيل ملابسٍ في نفس اليوم، مقابل 95 روبية (1.3 دولار) لكل كيلوغرام من الثياب.
وإذا احتجت دَفعةً أكثر ممَّا يستطيع الماء منحك إياه، فهناك عددٌ من المقاهي الجيدة في البلدة، وهو تغييرٌ آخر طرأ على المكان منذ زيارتي السابقة. وكان مقهى Brazil Cafe، بطاقِمه الودود وشُرفته على سطح المبنى، وجهة ملائمة لاستخدام الإنترنت اللاسلكي (إذ إنَّ التغطية في لياه ليست رائعة، وستتعلَّم أن تستفيد بها أينما وجدتها) ولكوب كابتشينو ثمنه 150 روبية (أي ما يعادل دولاران)، بالإضافة لخُبز موزٍ كان شهياً على نحوٍ مفاجئ وثمنه 100 روبية (1.4 دولار). كذلك يقدِّم مقهى Yum Yum Cafe، الواقع في ساحةٍ متفرِّعة من السوق الرئيسية، قهوةً جيدةً (80 روبية "أي ما يعادل دولار") وكعك مقرمش بزبدة الفول السوداني (50 روبية للقطعة الواحدة "0.7 دولار").
الطعام.. رخيص كثيراً
ويسهُل إيجاد أطعمة لداخية تقليدية أكثر في المنطقة. إذ يقدِّم مقهى The Himalayan Cafe طعاماً شعبياً جيداً بالإضافة لكونه يطل على مشهدٍ جميل للقصر والبازار الرئيسي. وكان ثمن الثينثوك النباتي، وهو حساءٌ يُطهى بمعكرونةٍ ثخينة مسحوبة يدوياً، 110 روبية (1.5 دولار) فقط. وكان الكوب الذي صاحبه من شاي الزبدة التبتي بارداً وحادقاً على نحو طاغ (40 روبية "0.6 دولار").
وفي مرحلةٍ ما من ذلك ستحب تجربة عجائن المومو، وهي قطائف تُحشَى بمكوِّنات تقليدية، لن تجد بينها أشهى من تِلك المحشوة بالبطاطس والجبن (مقابل 120 روبية "1.7 دولارت") الموجودة لدى مطعم Amdo Food، الواقع كذلك بالبازار الرئيسي. بعجينتها الخارجية الليِّنة وحشوتها الكريمية المُشبِعة، إنَّها الوقود المثالي لرحلةٍ جبلية.
لنُسخةٍ أكثر عصريةً من الطعام المحلي، جرِّب Namza وهو مقهى ومتجر ملابسٍ راقية في الوقت ذاته، لمالكته المصممة بادما يانغتشان. كانت الثياب بعيدة عن إمكانياتي المادية، لكنَّ الطعام بدوره كان مدهشاً. إذ كان حساء أوتشو تاغي النباتي بحبَّات المعكرونة المقوَّعة، تجربةً ممتعة (مقابل 300 روبية "4 دولارات"). وبدوره، يتطلَّب مطعم Bon Appetit المتفرِّع من طريق Changspa Road، بعض الجهد لإيجاده بعد المغيب، فعندما تجِد إخوتك من الروَّاد وهم يقتربون على مسلكٍ مظلم يهتدون بضوء كشَّافات هواتفهم، تعلم عندئد أنَّك وجدتُ مقصدك.
لا مثيلٌ في البلدة بأكملها لذلك المطعم بديع التصميم، والطعام هوَ الآخر ممتاز. يكلِّف برغر كبير من لحم الضأن ومعه بطاطس مقلية 300 روبية (4 دولارات)، وكذلك تكلَّف بلّ الريق مع الطعام بزجاجةٍ من عصير النبق الحامض عل نحوٍ منعش 100 روبية (1.4 دولار).
التنقل حول المدينة
رُغم كل هذا يتمثل جزءٌ معقولٌ من المُتعة في لياه في الترحال خارج البلدة نفسها، وقد استغللت بدوري حقيقة أنَّ بمقدور صديقتي سينا أخذ سيارةٍ لاستكشاف المنطقة المحيطة. (وبالنسبة للآخرين، فإنَّ استئجار سيارةٍ وسائق في لداخ أمرٌ سهلٌ ويُشجَّع فعله. وربما يُعطيك موقع مشغِّلي خدمة التاكسي في لداخ فكرةً عمَّا قد تدفعه مقابل رحلاتٍ مختلفة. وكما الأمر دوماً، ساوم بالسعر).
انطلقنا مبكراً ذات صباح، والشمس تسطَع على ظهورنا، لاستكشاف بضع مواقعٍ مقدسة مختلفة في المنطقة. وبعد التوقُّف وجيزاً لالتقاط الصور عند نقطة التقاء نهريّ السند وزانسكار، وصلنا إلى دير ليكير. يقبع الغومبا (أي الدير)، الذي بُنِي في الأصل عام 1065 ثم خضع لعمليات تجديد في القرن الثامن عشر إثر نشوب حريق، على هضبةٍ حيث تؤطِّره الجبال المغطَّاة بعروقٍ من الثلج في مشهدٍ بديع في الخلفية. وثمن دخول الدير 30 روبية (0.4 دولار).
إذا ما تسنَّى لك الوقت، استمر بالارتحال غرباً للساعةٍ أو الاثنتين المقبلتين، متجهاً مع نهر السند عبر المشهد الجبلي البكر الوعر. بعد 70 كيلومتراً، أو نحو 43 ميلاً، ستصل إلى دير لامايورو، وهو أحد أجلّ وأعرق الأديرة في المنطقة (تذكرة الدخول تكلِّف 50 روبية "0.7 دولار"). تحكي أسطورةٌ أنَّ أراهات مادندي، الذي أدخَل البوذية إلى المنطقة، زار هذا الموقع وتنبأ بأنَّ تعاليم الدين سوف تزدهر. يقع هيكل الدير، الذي يبعث في النَفس راحةً وهدوءاً، في منطقةٍ تُعرَف باسم أرض القمر حيث تندَمج خطوط الجبال الحادة عادةً وتنساب في موجاتٍ ناعمة.
يبعُد دير لامايورو عن بلدة لياه رحلةً كاملة، إذا أردتَ أن تزور مكاناً أقرب، يقع دير ثيكسي على مسافةٍ أقل من 20 كيلومتراً غرب البلدة. يوجَد شبهٌ بين دير ثيكسي، الذي تتَابع مبانيه البيضاء بجلالٍ على منحدر تلّ، وقصر بوتالا في التبت. زُرنا الدير مبكراً، فيما كانت الشمس تُشرِق، حتى نحضُر أداء صلوات الصباح. صعد راهبين شابين يرتديان أرديةً وأغطية رأسٍ برتقالية على سطح الدير ونفخا بالدونغ دكار، أي أبواق الصدف. وأدهشتنا الطقوس ببساطتها وجمالها.