في سنة 2010 عندما جلس الشاب الأمريكي أندرو فارو أمام جهاز التلفاز يشاهد مقابلة فريق بلده (الولايات المتحدة الأمريكية) ضد المنتخب الجزائري، لم يكن يتخيل أنه بعد ثلاث سنوات فقط من ذلك سيستقر بشكل نهائي في الجزائر ويلقب بإبن ابن بطوطة الأمريكي، وأكثر من ذلك سيستنكر البهجة التي شعر بها لحظة تسجيل هدف فريق بلده هدف الفوز "الآن عندما أتذكر تلك اللحظة أتأسف لخسارة المنتخب الجزائري، خاصة أن هدف فوز المنتخب الأمريكي جاء في اللحظات الأخيرة".
علاقة غريبة بين أمريكي وبلد اسمه "الجزائر"
تبدو علاقة ابن بطوطة الأمريكي بالجزائر غريبة بعض الشيء، ولكنها في الواقع علاقة قوية جداً، جعلته يستقرّ بها، يتعلم لهجة أهلها ويكتشف مناطقها وتقاليدها، يقرأ تاريخها، يصور تراثها، وأكثر من ذلك يروج لمعالمها، ويجذب السياح الأجانب إليها من خلال مدونته "ابن ابن بطوطة"، ثم يقنع فتاة أحلامه بالزواج والاستقرار في الجزائر.
أندرو فارو ، أمريكي الأصل والجنسية، ولد وكبر في مدينة بالتيمور في ولاية ميرلاند شرق العاصمة واشنطن، درس في جامعة "جورج تاون"، تخصص في العلاقات الدولية واللغات، على رأسها اللغتان الفرنسية والعربية .
منذ التحاقه بالجامعة سنة 2004، بدأ هوس أندرو فارو بالسفر واكتشاف ثقافات البلدان الإفريقية، حيث كان يحرص على التقاط الصور والتأريخ لسفره، ومشاركة مغامراته مع عائلته وأصدقائه، قبل أن يقرر إنشاء مدونة بعنوان "ابن ابن بطوطة"، التي جعلها منبراً للتعريف بالتنوع الثقافي والسياحة في الجزائر لاحقاً. ولأن "ابن بطوطة" مرجع لهواة السفر والاكتشاف ومُلهم أندرو، اختار تسمية نفسه "ابن ابن بطوطة".
هكذا قرر ابن بطوطة الأميركي الاستقرار في الجزائر
منذ عام 2013 استقرّ أندرو فارو بشكل نهائي في الجزائر، بعدما طاف عدداً من البلدان العربية، على غرار سوريا في سنة 2005، والأردن والمغرب بعدها بسنوات قليلة، في رحلته لتعلم اللغة العربية واللهجات المحلية للبلدان العربية.
زار ابن بطوطة الأميركي الذي يبلغ 33 سنة من العمر، الجزائر، لأول مرة سنة 2012، وهو يعتقد أنها ستكون محطة أخرى مثل جميع المحطات التي مرَّ بها من قبل، لكن علاقته بالجزائر كانت أقوى من ذلك.
توالت الزيارات خلال نفس السنة، ومع حلول سنة 2013 كان أندرو فارو قد قرَّر الاستقرار بشكل تام في هذا البلد الذي سحرته طبيعته وتنوّعه الثقافي، وجذبته طبيعة حياة شعبه ولهجته الغريبة. يقول أندرو: "كان انتقالي من العربية الفصحى إلى اللهجة العامية صعباً، في البداية وجدت اللهجة الجزائرية صعبة، لكن بمساعدة الأصدقاء أصبحت أتقنها".
في الجزائر العاصمة، بدأ أندرو فارو العمل في جمعية دولية غير ربحية للتعليم، تربطها علاقات مع شركاء جزائريين، إلى جانب ممارسته للتصوير، التدوين والكتابة وتقديم محاضرات في المناسبات والأحداث الشبابية، على غرار "ويكي ستاج الجزائر" وغيرها، من أجل تحفيز الشباب الجزائري على الكتابة والتدوين والسفر ومشاركة الخبرات.
يقول أندرو فارو عن الجزائر "عندما بدأت بزيارة الجزائر اكتشفت أنها ليست كما قرأنا عنها في الجرائد ونتخيّلها، وجدت بلداً آمناً، الناس يرحبون بالأجانب ويستقبلونهم جيداً، الجميع يبحث عن تأمين لقمة عيشه، شعرت بالراحة بينهم، وأصبحت أشعر بالراحة أكثر من الجزائريين أنفسهم. عشت معهم تجارب جميلة، فهم يحبون المزاح والضحك مهما كانت الحياة اليومية صعبة".
6 سنوات تقريباً ومازال يستمتع بالحياة اليومية في الجزائر
ككُل الجزائريين يذهب ابن بطوطة الأميركي إلى الأشواق الشعبية، يشتري الخضراوات والفواكه وما يلزمه لتحضير الطعام، يتناول الأطباق الجزائرية وعلى رأسها "الشخشوخة" الطبق التقليدي الذي سحره، ويكتب في مدونته باللغة الإنكليزية عن قصصه مع كل ما هو جزائري.
نشر أندرو فارو قصته مع "البوراك وشربة الفريك"، أشهر طبق جزائري في رمضان، يتجول الشاب أيضاً في المناطق الجزائرية من شرقها إلى غربها فبعدما زار مدينة وهران ومدينة قسنطينة وغيرها، زار الصحراء التي فتنته أكثر من أي منطقة أخرى، ونشر في تدوينة طويلة بعنوان "الجزائر بعيون أميركي"، تنقل تفاصيل رحلته إلى المناطق الصحراوية الجزائرية.
في الأحياء القديمة والمناطق الأثرية والشعبية يتنقل ابن بطوطة الأميركي أيضاً ويلتقط صوراً يشاركها في صفحاته على الفيسبوك، وإنستغرام والمدونة، ويقول أندرو عن هذه التجربة: "يتفاعل الناس بشكل كبير مع الصور التي أنشرها، وهذا الأمر يشجعني كثيراً للمواصلة، خاصة تعليقات الجالية الجزائرية في الخارج، عندما يتذكر الناس ذكرياتهم في الأحياء الشعبية القديمة ويحنّون لأيام الطفولة، وهذا يدفعني لالتقاط المزيد من الصور".
يركز أندرو فارو في عملية التصوير على كل ما هو تقليدي في الجزائر، دون أن يهمل الجانب الحضاري منها: "أصور الملابس التقليدية مثل الحايك ولباس الصحراء، أبحث عن الأشياء التي لا نملكها في أميركا".
ويرشد السياح الأميركيين في الجزائر
يقول أندرو إنه من بين الامتيازات الخاصة التي تحصل عليها باعتبارك واحداً من الفئة القليلة للأميركيين الموجودين في الجزائر، هي تلقي الكثير من المكالمات المهمة من السياح الأميركيين الذين يمرون بهذا البلد.
وبالنظر إلى قلة ما هو مكتوب عن الجزائر باللغة الإنكليزية، فمن المنطقي أن العديد من المتحدثين باللغة الإنكليزية سيزورون مدونته عاجلاً أو آجلاً، لأنها توفر قاعدة معلومات مهمة عن الثقافة الجزائرية للراغبين في اكتشاف هذا البلد.
يروي أندرو فارو قصته مع السياح الأميركيين، في الصيف الماضي كان هناك جيف وستيف، المغامران من مدينة مينيسوتا الأميركية، عثرا على تذاكر رخيصة جداً ذهاباً وإياباً بين مينيابوليس والجزائر، وقاما بشرائها قبل إجراء أي بحث عن الوجهة التي يقصدونها. بعدها تساءلا بشكل أو بآخر: "هل ارتكبنا خطأً مجنوناً بالمجيء إلى الجزائر؟"
يحكي ابن بطوطة الأميركي أنه طمأنهما أنهما لم يفعلا شيئاً سيئاً، وساعدهما في رسم رحلة مبهجة لمدة 10 أيام "التقينا لتناول طعام الغداء في آخر يوم لهما في الجزائر، كانت متعة كبيرة على جميع الأصعدة".
من القصص الأخرى التي حصلت لأندرو مع السياح الأميركيين، أنه بعد وقت ليس ببعيد اتصل دانيال، وهو صديقه من لوس أنجلوس، ويتطلع لزيارة مخيمات الصحراويين في ولاية تندوف. يقول أندرو: "وضعته على اتصال مع البعض، وقدمت له مشورة بشأن الخدمات اللوجستية، وانتهى به الأمر بأخذي معه في رحلته"، وهي الرحلة التي سيروي هذا الشاب الأميركي المقيم في الجزائر تفاصيلها لاحقاً عبر مدونته.
لم يتوقف الأمر هنا، فخلال هذا العام، كان لأندرو زيارة من ولاية أوهايو (عن طريق بوسطن، هانوي، وناشفيل) والتقى بالموسيقى الهاوي بيتر، الذي كان يسافر إلى الجزائر مع أمه.
قصة حب ملهمة
تزوَّج أندرو فارو في شهر سبتمبر/أيلول سنة 2018، ونشر تدوينة يروي فيها قصة حبه الملهمة مع زوجته نينا، هذه المرأة التي عاشت في 5 دول قبل أن تقرر الاستقرار مع زوجها في الجزائر.
تعود القصة إلى شهر أغسطس/آب 2016، عندما كان أندرو ونينا مع صديقتهما تانيا، يدردشون في حديقة فندق في الجزائر العاصمة، ويمزحون "إذا كنت حيواناً، فمن ستكون؟ أيها يناسب شخصيتك؟" أجابت تانيا عن سؤالها أولاً "السلحفاة"، وبرّرت اختيارها لأنها تناسبها تماماً.
عندما جاء دور نينا أجابت بشكل حاسم "الپلَاتِيپُوسُ"، ويعرف أيضاً باسم "خلد الماء" أو منقار البطة وهو حيوان برمائي. وبرَّرت اختيارها: "إن خلد الماء لديه مزيج غريب من الميزات التي لا يمكن أن تلتقي عادة، ولكنها تتناسب تماماً مع بيئته الفريدة".
وكانت الشابة قد أجابت عن نفس السؤال في مقابلة عمل، وقالت إنها كانت تشبه "البلاتيبوس" في حياتها، ومنتجاً مخصصاً لتجاربها، وتكيفت بشكل جيد مع الظروف الخاصة التي عاشت فيها.
في سنة 1988 كان عمر نينا سنة واحدة، وكان والدها مدير شركة هندسية ألمانية بارزة، عرض عليه الانتقال إلى مصر، ورغم أنه لم يسبق لوالديها زيارة مصر من قبل، ولم يكونا في ذلك الوقت يتحدثون اللغة العربية ولا يتحدثون سوى القليل من الإنكليزية، لكنهم كانوا مغامرين وقبلا العرض وانتقلا إلى القاهرة.
عاشت نينا في الجيزة في مصر، ودرست في المدرسة الألمانية هناك وطافت حول الأهرامات، وعندما أصبح عمرها 9 سنوات عادت عائلتها مجدداً إلى جنوب ألمانيا، ومكثت هناك لمدة سنتين، قبل أن تنتقل العائلة مجدداً إلى الهند، حيث مكثت 8 سنوات كاملة، ودرست في المدرسة الأميركية بدلهي، وارتدت الساري في الحفلات الموسيقية.
أينما كان الحب.. كان الوطن
تتحدث نينا 4 لغات، وعاشت في 6 دول، وزارت العشرات من البلدان، ولكنها لا تشعر بالانتماء لأي منها بما في ذلك بلدها الأم ألمانيا، تشعر بالراحة عندما تتحرك وتسافر. يقول أندرو: "كان طريقي الخاص مختلفاً تماماً، ولكني أيضاً متأثر بماضيّ، بالدروس والأفراح والأغنيات التي ميزت طفولتي في بالتيمور ورحلاتي، بطريقة ما قادني هذا الطريق إلى حياتنا المغتربة الغريبة والرائعة في الجزائر".
يقول ابن بطوطة الأميركي أنه بالرغم من سفرياته وتنقله كان له دائماً بيت يعود إليه، ولكن نينا لم تكن كذلك، عندما عادت إلى ألمانيا من أجل الجامعة أخبرته ذات مرة أنها لا تشعر بالانتماء لبلدها "تخيل أن تعود لبلدك ولكن تشعر كأنك طالب أجنبي". وفي الوقت الذي كان أندرو يحصل على تسهيلات في سفره كمواطن أميركي فإن حالة نينا لم تكن كذلك.
يقول أندرو فارو : "كانت نينا تحن إلى مصر والأماكن التي نشأت فيها، ولكنها لم تكن لها علاقات هناك، حتى إنها فقدت مهارتها في اللغة العربية، ولم تعد تتحدثها كما كانت طفلة صغيرة".
في شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، عرض ابن بطوطة الأميركي على نينا الزواج في القاهرة، وتزوجا رسمياً، يوم 8 سبتمبر/أيلول 2018، وأقاما حفلاً في حديقة منزل والديها في ألمانيا. يوم زفافهما مشت العروس نحو زوجها على أنغام أغنيتهما الجزائرية المفضلة، بعدما قررا الاستقرار في الجزائر، عملا بالحكمة القائلة "أينما كان لديك أصدقاء فذلك هو بلدك، وأينما وجدت الحب فذاك هو منزلك" كما حدث مع الشابة الألمانية التي عشقت الشاب الجزائري واشتهرت قصة حبهما بعد ترحيله..
ويختم أندرو القصة: "أنا ونينا وجدنا منزلنا الصغير الخاص بنا، الذي سنأخذه معنا أينما ذهبنا".