التأشيرة أو إذن الدخول أو الفيزا، هي صيغة أو ختم يوضع على وثيقة السفر فيسمح لحامله بالدخول إلى بلد أو بلدان معينة بحسب شروط محددة، هذا هو التعريف المُناسب لمصطلح التأشيرة، لكن ماذا عن الحالمين بـ"التأشيرة"، وماذا عن الناقمين عليها؟!
الكل يحلم بالسفر لبلاد أخرى، غير تلك التي عاش فيها؛ ربما لكسب العيش، أو تحسين وضعه الاجتماعي والاقتصادي، وربما كان شريداً.. لكن من ذاق طعم البُعد، وصقيع الوحِدة الموحشة هو الوحيد القادر على وضع وصف جاد لحلم "التأشيرة والسفر".
يعدّ السفر من الأمور الصعبة الّتي يواجهها العديد من الأفراد؛ وذلك بسبب الظروف الصعبة الّتي تحيط بهم، والّتي تجبرهم على ترك عائلاتهم وأصدقائهم، وعلى الرغم من المرارة الكبيرة التي قد يشعر بها الأشخاص الذين يقْدمون على السفر فإنهم قد يحصلون على عدّة منافع قد تكون ماديّةً أو اجتماعيّةً أو تعليميّةً مفيدة لهم.
فإِن قيلَ في الأسفارِ ذلٌ ومحنةٌ وقطعُ الفيافي وارتكابُ الشدائدِ
فـموتُ الفتى خيرٌ له من قيامِه بـــدارِ هوانٍ بين واشٍ وحاسدِ
ولا تتم فائدة الانتقال من بلدٍ إلى بلدٍ إلا إذا انتقلت النفس من شعورٍ إلى شعور، فإذا سافر معك الهم فأنت مقيمٌ لم تبرح.. "اضرب في أرجاء الدنيا سافر حيث شئت.. سترى أشياء كثيرة في العالم تغنيك.. تفتح أمامك آفاقاً لم تكن تخطر لك على بال، كل هذا يجددك"، ولكن إياكَ أن تصحب في السفر غنياً فإنك إن ساويته في الإنفاق أضرَّ بك، وإن تفضل عليك استذلَّك.
• معادلتي الصعبة: أحب السفر.. وأكره الرحيل•
عامان أو ما يزيد قليلاً، هي عُمر غربتي عن الوطن، عامان وأيّ عامين كانا، لن أتحدث كالعادة عن مرارة الفقد وصقيع الوحِدة الموحشة، وزمهرير البُعد الذي يعصف بالقلوب المُنهكة، ولا عن الأشواق التي تدغدغ الأضلع.
عامان كل ما شهدته فيهما تيه للنفس وفوارق في الوجوه واشتياق وبعثرة للروح، آلام الانتظار غير المشروط وغير المحدد بزمن ولا تاريخ، عامان باتت كُل الأحلام مؤجلة لحين عودة، عامان كُل ما أتذكره ويصعب عليَّ أن أنساه، تلك القاعة التي فرقتنا في "المطار" التي احتضنت دمعاتي ومن أُحب في لحظة وداع قاسية، تلك القاعة التي دخلت إليها مُغادراً لا أعلم متى أعود، رحلت وقلبي بقيَ عالقاً، يُقبّل كل أرض رُبّيت فيها ومشيت عليها.. رحلت ونفسي تتوق إلى رؤية حارتنا ومنزل أسرتي، رحلت وعيني تشتاق لكحلة من نظرة لوجوه الأحبّة.
ها أنا قد سافرت… سافرت أكثر مما سافر السندباد وشاهدت أعظم المُدن والبحار، وقابلت حمقى يتصورون أنهم يوجهون العالم، ودخلت أغنى القصور وأفقر الأكواخ، واستمعت إلى منطق الفلاسفة وهذيان العشاق، وجربت النجاح والفشل والحب والكراهية والغنى والفقر، وعشت حياة مليئة بالتجربة والسفر والقراءة والتأمل، لكننى أعترف بأنني لم أكتشف معنى السعادة إلا خلال هذه اللحظات التي كنت أجلس فيها بين أحضان أسرتي.
ضحكت عندما قرأت قول الشافعي:
ما في المقامِ لذي عقلٍ وذي أدبِ مِنْ رَاحَــةٍ فَدعِ الأَوْطَانَ واغْتَرِبِ
سافر تجد عوضاً عمَّن تفارقهُ وَانْصِبْ فَإنَّ لَذِيذَ الْعَيْشِ فِي النَّصَبِ
إني رأيتُ وقوفَ الماء يفسدهُ إِنْ سَاحَ طَابَ وَإنْ لَمْ يَجْرِ لَمْ يَطِبِ
والأسدُ لولا فراقُ الأرض ما افترست والسَّهمُ لولا فراقُ القوسِ لم يصب
والشمس لو وقفت في الفلكِ دائمةً لَمَلَّهَا النَّاسُ مِنْ عُجْمٍ وَمِنَ عَرَبِ
والتَّبْرَ كالتُّرْبَ مُلْقَىً في أَمَاكِنِهِ والعودُ في أرضه نوعً من الحطب
فإن تغرَّب هذا عزَّ مطلبهُ وإنْ تَغَرَّبَ ذَاكَ عَزَّ كالذَّهَبِ
فأنت عندما تسافر فإنك لا تبتعد جغرافياً فقط؛ بل تنتشل روحك من كل ما ارتبطت به، كأنها تخرج لبارئها، وطرق السفر يقف عليها أناس كثيرون لا يبكون لا يضحكون، إنهم فقط مسافرون.
فيا لغرابة الدنيا! فحياتنا أشبه بالمطارات، نتنقل بينها دون أن نشعر، ننسى أجزاءً من أنفسنا في بعض المحطات وتدمغنا محطات أخرى، نركب طائرات العُمر غائبين عن الوعي، نتسابق مع الزمن، نشتري تذكارات لسنين، قررنا أن نحتفظ برائحتها لنسافر معها إلى اللحظات السعيدة ونستعيد وجوهاً أبهجتنا يوماً.
طائرات تقلع بتوقيت، فالالتزام جبري، لا مجال للهو وإلّا سبقتنا الحياة وحرمتنا من متعة اللقاء بمن ينتظروننا على منعطف محطة مضاءة بالمغامرات، مدججة بالمفاجآت، حقائبها أحلامنا وليالينا، وجوازاتها مستقبلنا وأمانينا.
وجوه وذكريات، أناس نتركهم وراءنا وآخرون يواكبوننا، نتوقف طويلاً في محطاتهم نتعلق بهم، نعشقهم، نتناسى موعد انطلاق طائرتهم، نتجاهل لحظة الوداع؛ لأن الوداع خُلق للغرباء، فنحن لا نودع من نحبهم؛ بل نعيش على أمل لقاء آخر يجمعنا بهم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.