أثناء مناقشة رسالتي لنَيل درجة الدكتوراه، لفت الأستاذ الدكتور يحيى عبد الله، أستاذ الأدب العبري الحديث بجامعة المنصورة، نظري إلى أن تحليل تقنية المكان في الروايات محل البحث كان جيداً، كان هذا الإطراء أكبر بكثير مما توقعت، وظلت كلمات أستاذي الدكتور يحيى تتردد على مسامعي طوال الأيام التالية، فأصبحت أعود إلى البحث، أطالع المقاطع التي تطرقت فيها لتقنية المكان، هل أنا صاحب هذه الكلمات، وهذا التحليل؟
أعود مجدداً إلى المراجع التي استعنت بها، ثم إلى البحث مرة أخرى.
أحياناً نحتضن بعض نجاحاتنا مثل أم رُزقت على كِبر بفتاة جميلة، فهي طوال الوقت تحتضنها، تمشط لها شعرها، تهدهدها، تستيقظ بين الفينة والأخرى لتمعن النظر فيها وهي نائمة، وهي تلعب، وهي تتألم مع بروز سنّتها الأولى، وهي تخطو خطوتها الأولى، وهي تقول ماما للمرة الأولى، أبناؤنا ليسوا الأطفال فقط، وإنما النجاحات التي نحققها ونتعهدها بالرعاية والنمو والاستمرار.
المكان هو الفضاء الذي نعيش فيه، نتفاعل معه، ومع مؤثراته، لكن في الوقت نفسه تختلف درجة الشعور بالمكان من شخص لآخر، أما أنا فأعتبر نفسي واحداً من هؤلاء الذين ساهم هذا الفضاء في بلورة تفكيرهم ووجدانهم.
(1) ديار ليلى
أثناء دراستي بالجامعة كنت أتوق لأعيش قصة حب مثل بقية الرفاق، فقد كان مجيئي للقاهرة بمثابة الخروج من عنق الزجاجة، وكانت الفتاة التي وقع عليها الاختيار من نفس بلدتي، فكنت أقضي أيام الإجازة في البلد أطوف ببيتها؛ لعلّي أحظى برؤيتها، وكان هذا الطواف فرض عين على أصدقائي الذين يسكنون في نفس المحيط؛ إذ كان ينبغي أن يكون لديك مبرر للمرور من هناك أكثر من عشر مرات يومياً، وكانت كلمات قيس بن الملوح هي دليلي ومرشدي في تلك الفترة:
أمر على الديار ديار ليلى ** أقبل ذا الجدار وذا الجدار
وما حب الديار شغفن قلبي ** ولكن حب من سكن الديار
كان بيت هذه الفتاة هو قِبلتي وموطني منذ وصولي للبلد نهاية كل أسبوع وحتى سفري في بداية الأسبوع التالي.. لحسن الحظ لم تنتهِ قصة الحب هذه كما تمنيت، تقدمت في فترة ما لوالد هذه الفتاة الذي استقبلني بحفاوة بالغة، بيد أنه قال: إن كنت تحبها فاتركها لمن هو أفضل منك، فإن ابن عمها الأستاذ بالجامعة قد طلبها واعتذرنا له، وجاءها طالب زواج آخر يعمل في سلك القضاء واعتذرنا له أيضاً، في انتظار مَن هو أفضل، في هذا اليوم انتهت هذه القصة، وانتهت رحلة الحج اليومية.. قبل عدة سنوات مررت صدفة من أمام هذا البيت، وقد أصبح أثراً بعد عين.
رغم أن بلدتنا صغيرة بعض الشيء، ويكاد كل واحد منا يعرف كل أهلها، فإنني عندما عرفت زوجتي للمرة الأولى لم يكن لي سابق معرفة بها ولا بأسرتها، رغم أنها تسكن في شارع يعتبر امتداداً للشارع الذي أعيش فيه، وبعد الخطوبة صار منزلها الصغير هو قِبلتي بعد ذلك، كلما نزلت البلد، وهو ما أثار غيرة أخواتي البنات اللاتي رأين الموضوع كأنه احتلال، وليس مجرد خطبة وزواج، ورغم أن حمايا -رحمه الله- قرر بيع هذا البيت ليشتري شقة هنا في القاهرة ليكون بقية أبنائه بجوار أختهم الكبرى، فإنني حتى اليوم لا أسافر للبلد إلا وأذهب إلى هذا البيت أطوف به مرة بعد مرة وكيف لا؟ وقد شهد ميلاداً جديداً لكاتب هذه السطور.
(2) طنطا – ميدان الساعة وشارع المديرية
أدمنت عشق الأماكن منذ صغري، أذكر أنني كنت في الصف الرابع أو الخامس الابتدائي عندما كنت أعمل صبياً في صالون الحلاقة الذي يمتلكه زوج والدتي، كان هذا الصالون يطل على موقف سيارات المحافظات، ما سمح لي بالاطلاع على عوالم وشخصيات مختلفة، بدءاً من السائقين الذين ينتمون لمحافظات مختلفة، ولكل منهم لهجته الخاصة، وأحيانا زيه الخاص أيضاً، ولما كنت قد بلغت من الشقاوة مبلغاً كبيراً في هذا الوقت، لم أكن أتورع عن الاختلاط بكل المترددين على هذا المكان، فهذا طبيب من محافظة كفر الشيخ،
ولديه عيادة هنا ينتظر سيارة تقله إلى بلده، فيساعدني في ما شقّ عليّ في حل الكلمات المتقاطعة التي كنت أجمعها من الجرائد المكدسة في محلات الفول والطعمية، فمع الصباح كنت أطوف بهذه المطاعم التي يعرفني أصحابها، وأفتش بين صفحات الجرائد التي يغرزها البائعون في خطاف حديدي يعلقونه بجوارهم، فأقص الكلمات المتقاطعة وأذهب، وهذا سائق من الإسكندرية يحكي لي عن قصة حبه التي لم تتم، وهؤلاء مجموعة من الأطفال المشردين الذين آواهم هذا المكان؛ ليعملوا في غسل السيارات مقابل عدة قروش يأكلون ببعضها، ويؤجرون ببعضها الدراجات في آخر النهار، كنا نتسابق من منا يستطيع أن يرتفع بدرّاجته أعلى بعد اجتياز المطبات، كأننا نريد أن نحلق إلى عالم آخر، عالم أعلى بقليل من عالمنا الذي نعيش فيه.
كانت أسعد اللحظات هي تلك يدسني فيها زوج والدتي خلف مقعد السيارة المتجهة إلى مدينة طنطا – تبعد نحو 40 كيلومتراً عن بلدتنا- وفي حضني ورقة جرائد ملفوفة بعناية، تحتضن عدداً من المقصات لأشحذها عند محلات أبو سنة في مدينة طنطا، كان هذا هو العيد بالنسبة لي، ورغم أن الانكفاءة خلف مقعد السائق كانت تخلف آلاماً في الظهر تستمر لعدة أيام، فإنني كنت أتجاوز هذا الألم؛ لأستمتع بيوم مختلف، كنت أنزل من السيارة في طنطا طفلاً صغيراً لا يتجاوز عمري الحادية عشرة، أما طولي فقد كان يقترب من متر واحد وربما بعض السنتيمترات،
أتخذ طريقي سيراً على الأقدام عبر ميدان المحطة، ثم إلى منطقة مسجد السيد البدوي؛ حيث تقع محلات أبو سنة (سنان الأسلحة)، فأسلمه المقصات لأعود في نهاية اليوم لأتسلمها، ثم أنطلق إلى رحلتي في شارع المديرية، ولمن لا يعرف هذا الشارع فهو قطعة من فيينا القديمة، تتراص المنازل ذات الطراز العتيق على جانبيه، الأدوار السفلى منها كلها محلات للمأكولات والعصائر والملابس والألعاب والهدايا، وترتفع بين المحلات والرصيف أعمدة بُنيت على الطراز العثماني، وما أن تدخل الشارع من اتجاه شارع البورصة أو ميدان الساعة تتهادى إليك رائحة الكفتة المشوية التي تشتهر بها طنطا.. لم أكن من هواة الكفتة وقتها، بل كنت معتاداً على أخذ ساندويتش الكبدة المميز من الكشك الصغير الذي يقع خلف سينما مترو في مقابل شارع درب الأبشيهي،
ومن كشك الكبدة إلى سينما مترو؛ حيث أقضي نحو ست ساعات في مشاهدة ثلاثة أفلام، ولا أخرج منها إلا مع حلول الظلام؛ لأعود إلى أبو سنة أتسلم منه المقصات، وقد عادت جديدة كأنما صُنعت اليوم، وأعود أنا أيضاً إلى بلدتي كأنما وُلدت اليوم.
(3) سوق الجريد – بنغازي
بعد النهاية المأساوية لقصة الحب المذكورة أعلاه، التي تضاف إلى أزمات أخرى كنت أعانيها قررت أنا وأحد الأصدقاء الذين يعانون أيضاً أن نترك البلد؛ لننسى آلامنا – طبعاً كان من الأفضل أن نشرب أي حاجة تنسينا وخلاص – لكن اخترنا سريعاً السفر إلى ليبيا، كان هذا في أواخر التسعينات من القرن الماضي، قبل السفر بيومين تراجع صديقي، أما أنا فقد أعددت عُدتي، بعض الملابس، ونحو عشرين رواية عالمية مترجمة، وعدة حلاقة لأعمل بها هناك – فقد كنت قد أجدت هذه الصنعة منذ صغري – ومن أمام إحدى شركات السياحة بدمنهور استقللت الأتوبيس السياحي القادم من محافظة المنصورة،
وعلى متنه 42 مسافراً من الدقهلية، وثلاثة من محافظة البحيرة أنا أحدهم، بعد نحو 24 ساعة وصلنا إلى مدينة بنغازي، لا أعرف فيها أحداً، واستقر بي المقام على أحد المقاهي في سوق الجريد، أو سوق الظلام، كما يسمونه، وهو شارع عريض مسقوف بالجريد، فلا يأتيه إلا الضوء القليل؛ لذلك سُمي بسوق الظلام، وأغلب محلات السوق هي محلات الملابس الإيطالية، والطعام والمقاهي، والمنطقة برمّتها تعتبر نقطة تجمع المصريين هناك، خصوصاً أبناء الإسكندرية والمنصورة وكفر الدوار.
ما أن وضعت أنا ورفيق الرحلة الذي ينتمي لبلدة قريبة من بلدتي حقائبنا في المقهى حتى جاء إلينا رجل يقترب من الأربعين من عمره عرفنا بنفسه، الأستاذ جمال، وأنه مدرس رياضيات من محافظة الشرقية، وسألنا إن كنا نعرف أحداً هناك؟ فأجبناه بالسلب، فما كان منه إلا أن أخذنا إلى فندق قريب يطل على البحر المتوسط، وحجز لنا غرفة بدينارين في الليلة،
كانت الغرفة تتكون من أربعة أسرّة، سبقنا إليها شابان من أبناء محافظة المنصورة جاءا معنا في الأتوبيس، كان هذا اللقاء مبشراً بالنسبة لطالبين جامعيين يشقان أولى خطواتهما في الغربة.. مرت عدة أيام قبل أن ألتحق بالعمل في صالون حلاقة بحي الحدائق، مقابل نحو 50 ديناراً في اليوم، وكان هذا مبلغاً كبيراً وقتها، كنت أنهي عملي عند صلاة المغرب لأعود للمقهى في سوق الظلام؛ حيث الأستاذ جمال وشلته عم عبد الباسط (حداد مسلح)، ومصطفى عامل بناء، وآخرون من نفس البلدة التي ينتمون لها، كنا نلتف حول الطاولة يلعبون الطاولة ويدخنون الشيشة ويشربون الشاي.
كانت طريقتي في الكلام وفي التفكير تستهويهم، كنت في نظرهم شاباً جامعياً مثقفاً، يافعاً، في عمر أبنائهم، فقربوني منهم، وصارت الجلسة لا تكتمل بدوني، فإن اشتد الحر انتقلنا إلى كورنيش بحيرة تيبيستي، التي يطلق عليها حالياً بحيرة 23 يوليو، وهناك كانت تستقبلنا موسيقى عبد الوهاب وأغاني أم كلثوم وإيهاب توفيق الذي كان صدر له في هذا الشهر ألبوم الأيام الحلوة، على كورنيش بحيرة تيبيستي أكملت قراءة كل ما جلبت معي من روايات، وقبل أن يمر نحو شهر ونصف كنت قد عدت إلى مصر لعدم قدرتي على البعد أكثر من ذلك عن أمي،
ومن المفارقات أنني كنت الوحيد الذي استطاع الحصول على فرصة عمل من بين كل من كانوا معنا في الأتوبيس، وعادوا جميعاً قبلي سوى رفيقي الذي حاول الهروب إلى أوروبا عبر مركب للهجرة غير الشرعية فقبض عليه ثم أطلق سراحه، وصمم على البقاء لتكرار المحاولة ولا أعلم عنه شيئاً حتى اللحظة.
(4) محطة الرمل وشارع النبي دانيال – الإسكندرية
كنت في الخامسة من عمري عندما زُرت مدينة الإسكندرية للمرة الأولى بصحبة أمي وإخوتي، لا أتذكر شيئاً كثيراً عن هذه الزيارة سوى مشهد البحر، ونحن نتناول الغذاء على أحد المقاهي ونأكل ثمار المشمش.. في الزيارة الثانية كنت في الصف الثاني الثانوي، كانت هذه المرحلة من عمري هي البداية الحقيقية لي كشخص بالغ، أما شريكي في هذه القصة فقد كان يسبقني بعام دراسي، لكنه رسب في الصف الثاني الثانوي،
فصرنا رفاق صف واحد، ولأنه جاري فقد ألحّت والدته -رحمها الله- أن أستذكر دروسي معه عسى أن ينفعه ذلك، كنت متفوقاً دراسياً، وكان هو (أبيض يا ورد) ليس له شغل إلا مواعدة الفتيات، كان وسيماً، لطيفاً، خفيف الدم والظل، صاحب روح ساخرة، ساعدته ظروف أسرته الاجتماعية والمادية على أن يكون "دون جوان" هذا العصر بين شباب أهل بلدتنا.. في هذه الليلة دق جرس الهاتف، ودار حوار هامس وقصير بينه وبين فتاة على الخط الآخر،
ثم توجه إليّ وقد تهللت أساريره، سألقاها غداً في الإسكندرية، وستكون أنت معي.
أنا؟ لماذا؟ قلتها ممنياً نفسي بالذهاب، بل ومتخيلاً نفسي على كورنيش الإسكندرية الذي لم أرَه منذ كنت في الحضانة.
رد عليَّ هامساً: سأخترع حجة لأمي، ولن تقبل بخروجي إلا وهي تعرف أنك معي، سنقول لها إننا سنذاكر مع صديق ثالث، أو سنشتري كتباً خارجية،
أو سنذهب لمدرس ما ليراجع معنا بعض المواد.
من الجيد أن تكون أنت جواز المرور بالنسبة للآخرين.
في الصباح الباكر، كان كل منا يحمل كتاب البلاغة في يده، وذهبنا لنستقلَّ السيارة إلى الإسكندرية، في تمام العاشرة صباحاً كنا قد وصلنا إلى محطة الرمل، تركت صديقي يبحث عن هاتف ليتصل بفتاته، وانشغلت أنا بالتفرغ للانبهار بالمكان، محطة الترام، البحر من أمامها يعانق السماء، ومشهد السيارات وهي تتفرع في سيولة واضحة عبر شارعَي صفية زغلول وسعد زغلول،
وواجهات المحلات التي تعرض أحدث ما وصلت إليه التكنولوجيا من أجهزة الكاسيت والراديو والفيديو، كان المشهد بانورامياً من خلف زجاج الدور الثاني من مطعم كنتاكي، كانت هذه هي المرة الأولى أتناول فيها الدجاج على طريقة هذا الرجل الأميركي، مشهد البحر امتزج مع مذاق سلطة الكول سلو التي تحيرت كثيراً في معرفة الأصناف التي تتكون منها، قبل أن أقول لنفسي: دعك من هذا الضجيج، وكُل، فإنك لا تدري متى تعود إلى هنا مرة أخرى.
يبدو أن مشادة ما حدثت بين صديقي وفتاته، تأخّر على أثرها الموعد الغرامي لبعض الوقت، أما أنا فلم أضيّع الكثير من الوقت؛ إذ أخذت أجول في الشوارع المحيطة، أتطلع إلى واجهات المنازل القديمة وشرفاتها التي تعكس طابعاً معمارياً فريداً يميز هذه المدينة الساحلية العريقة. وفجأة، اقشعر بدني أمام هذا المنظر، أكوام من الكتب قد تراصت فوق بعضها البعض على الأرصفة، روايات تولستوي ودوستويفسكي، وإميل زولا، وشارلوت برونتي، والمدهش أكثر، أن ثمن الكتاب الذي يباع على الرصيف في حدود ربع جنيه، أو عشرين قرشاً،
أي قدر رائع ساقني إلى هنا؟! أول ما خطر على بالي هو أن استوقفت سيدة مسنة لأسألها عن اسم هذا الشارع، لتخبرني في استغراب أنه " شارع النبي دانيال"، أنفقت كل ما أملك – وكان لا يتعدى وقتها السبعة جنيهات – على شراء الكتب والروايات، وضعها لي آخر بائع في شيكارة بلاستيكية حملتها على كتفي، وذهبت للقاء صديقي في الموعد المتفق عليه، ولشد ما غضب لرؤيتي أحمل شيكارة محشوة بالكتب، لم أكن طبعاً لأبالي بهذا الهراء، وفي مقعدي بالسيارة عائدين للبلد أخذت شيكارة الكتب في حضني واستسلمت لنوم عميق.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.