في "بات بونغ"، وجدت الباعة عارضين بضاعتهم على الأرض والتي كانت نسخة طبق الأصل من أحدث صيحات الحقائب اليدوية والساعات من الماركات العالمية وبأسعار زهيدة. لم أتمالك نفسي كثيراً، بدأت أساوم البائع وأفاصل معه في السعر بعد أن اخترت شنطة لي ولأمي وساعة يد، في محاولة لمحاربة نفسي المحِبِّة للشراء وحتى لا أندم لاحقاً؛ إنها النفس البشرية التي تريد أن تحصل على كل شيء ولا يكفيها شيء.
بعد أن وافق البائع على سِعري، شعرت بأنه استغفلني وأنه من المفروض أن أساوم أكثر؛ لما سمعته عن طمع الباعة الذين يعرضون البضاعة 4 أضعاف ثمنها الحقيقي، كانت الموسيقى تصدح من داخل محلات تشبه الملاهي الليلية على اليسار، فضولي دفعني لدس رأسي داخل أحدها وذُهلت مما رأيت. كانت الفتيات الصغيرات سنّاً وحجماً عاريات تماماً يتراقصن على طاولات ويتمايلن على عمدان مثبتة، حيث يجلس الزبائن على كراسي مصفوفة حول تلك الطاولات مثل القرود الجائعة والمنتبِهة إلى مدربها لعله يلقي لها بالموز، هكذا بَدَوْا لي.
كان هذا المنظر من أصعب ما شاهدت في حياتي، هو تجسيد كامل للعبودية والإهانة واستغلال حاجة الصغار وجشع البعض ولهفة كثير من الرجال على مشاهدة العري المبتذل. كان من بين السادة الحاضرين مساعد الطيار، نعم كان ينتظر أن تحن عليه العارضة بقطعة من جسدها، كأن لحوم الراقصات الصغيرات بوفيه مفتوح لمن يدفع.. كم هي بائسة حياتهم وكم هي منكسرة أرواحهم!
من صدمتي مما رأيت، خشيت أن ترى أمي تلك المناظر المهينة، لذلك تركنا المكان عائدين للفندق متعَبين من السير طوال اليوم، في اليوم التالي كان عليَّ أن أقوم برحلة لبلدة مانيلا في الفلبين وترْك والدتي وحدها، طلبتُ هدى وسألت زوجها أن يطمئن على أمي خلال غيابنا، كنت قلِقة ان أترك أمي وحدها في بلدٍ لا نعلم حتى كيف نتحدث مع أهلها!
ما أجملها أمي! تتمتع بذكاء اجتماعي يفتقده الكثيرون، هبطتْ إلى بهو الفندق، ورغم عدم قدرتها على التحدث بالإنكليزية، فإنها استطاعت أن تُفهم موظفة الاستقبال أنها تريد منها كتابة كلمة جبنة باللغة التايلندية حتى تستطيع شراءها من السوبر ماركت. وبالفعل، حملتْ معها الورقة وذهبت بكل شجاعة للسوبر ماركت وناولت البائع الورقة فأحضر لها قالب زبدة، نظرت أمي إلى القالب وهي غير مقتنِعة بأنه جبنة! حاولتْ أن تتحاور مع البائع، ثم توجهت للثلاجة وأشارت له على ما بدا لها أنه نوع من أنواع الجبن. وبالفعل، أحضرت الجبن والخبز وعادت للفندق وقد نجحت في مهمتها.
مازحتُ أمي قائلةً: "كيف تضمنين أن هذه الجبنة من ألبان البقر وليست من لبن الصراصير؟"، فضحكت وقالت: "هل -عُمرك- رأيتي صرصاراً يرضع طفله؟"، فأجبتها: "ممكن.. مين عارف! طالما في لبن العصفور، إذاً أكيد في لبن صراصير، في تايلاند كل شيء جايز".
في صباح اليوم التالي، قررنا التنزه داخل مول NBK الذي سمعت عنه من الفتيات. وبالفعل، في طريقنا للمول وجدنا متحفاً كبيراً على أبوابه تماثيل للقرود، فقررنا زيارة المعبد الأول، وما إن دلفنا حتى وجدنا كل التماثيل داخل المعبد برأس قرد وجسم بني آدم، أعتقد أنه كائن مقدَّس عند الهندوس! المكان كان مزدحماً جداً، كان أكثر شيء لافت مدى خشوع المصلين داخل المعبد، إحساس الخشوع يطهّر النفس ويرتقي بالروح، فشعرت بالسكينة في ذلك المكان رغم اختلاف معتقداتنا. انتهينا سريعاً، ثم أشرت لسائق توكتوك قائلة اسم المول بصوت عالٍ، بعد أن ابتعت قطع البطيخ التي أدمنتها.
وصلنا للفندق حيث كنا في حاجة لقسط صغير من الراحة، في المساء خرجنا نتنزه سيراً على الأقدام قريباً من الفندق. وبالفعل، سرنا نحو ساعة كاملة ثم وجدنا محلات متجاورة وكلها تقدم مساجاً للقدمين، وقررنا أن نجرب أحدها، دخلنا المحل الذي به سيدات واللاتي ما إن رأيننا حتى قدمن لنا تحيتهم بالميل إلى الأمام قائلين: "ساباديكا"، يعني: أهلاً. طلبنا مساجاً للقدمين، لم أعتد شعور الدغدغة في قدمي فكنت أتلوى من الضحك، كذلك كانت أمي، بعد أن انتهينا شكرت السيدات اللاتي انحنين قائلات: "كابكونكا " التي تعني شكراً، هاتان الكلمتان سمعناهما على مدار إقامتنا في تايلاند عشرات المرات، وفي كل مرة كنت أشعر بمدى جمال تلك الطريقة في الترحيب والتقدير.
عدنا للفندق ونحن في حالة استرخاء جميلة. وبالطبع، ابتعنا قطع البطيخ، ثم وجدنا بائع ذرة مشوية كأننا نسير في ميدان روكسي، طلبنا منه كوزين ذرة والتهمناهما بشراهة، كان "الذرة" عشاءنا بعد أن قررنا أن نقتصد في مصاريفنا كي تكفينا بقية النقود.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.