كنت سعيدة ومتحمسة لرحلتي إلى ميونيخ، ثالت أكبر المدن في ألمانيا وعاصمة بافاريا، لم تكن لدي معلومات كافية عن تلك البلدة سوى القصص المعروفة عن السامية وهتلر، سألت الفتيات عن أهم الأماكن التي يجب زيارتها، لم أجد الكثير من المعلومات فكلهن كن يؤثرن التبضع عن زيارة المعالم السياحية للبلدة.
بعد أن التقيت ببقية الطاقم وانتهينا من الروتين اليومي للرحلة من تعارف وطرح أسئلة أمنية وخدمية، انتهينا بوجودنا داخل بطن الطائر الكبير إيرباص 300، كنت سعيدة بوجود الطاقم الذي تم انتقاؤه من كل بستان زهرة، أذكر "وسيم" الشاب الباكستاني الخلوق الذي تحمَل مشقة مساعدتي في كل شيء، كان مهذباً وخجولاً، مما جعلني أشعر بالراحة بوجوده معي في الدرجة السياحية رغم أنه أقدم مني في الشركة.
في شركتنا يتم تقديم الخمور وتلك كانت عقبة بالنسبة لي، لست من هؤلاء مدعي الإيمان، ولكن كان يتملكني دائماً هاجس الموت في الطائرة، ولا أريد أن أموت على فعل يغضب الله.
طلبت من زميلتي "كريستينا" البريطانية أن تقدم هي المشروبات الكحولية على أن أتولى أنا تقديم الوجبات، رحبت بكل أدب، وبالفعل تولت هي تقديم الخمور طوال الرحلة، جلست بجواري، وقالت: كثير من المسلمين لا يمانعون تقديم الخمور، بل ومنهم من يحتسيها، هل هذا ضعف إيمان؟ صراحة السؤال هزني في داخلي، قلت لها: هل تعتقدين أن لنا الحق في الحكم على إيمان الآخر؟! أجابتني بابتسامة جميلة قائلة أحييكِ، ثم استطردت قائلة: كنت أفكر كثيراً في الإسلام منذ وصولي للدوحة، ولكن من سوء ما رأيت من مسلمين كثر في رحلاتنا وغيرها أعدت التفكير مرة أخرى.
لم أحاول أن أبرر لها ما يفعله البشر، فنحن جميعا خطاؤون، ولكني قلت لها: كثير من المسيحيين واليهود ومن جميع الأديان لا يلتزمون بتعاليم دينهم، ولا يمثلون الدين، هم بشر والبشر خطاء، نصحتها بالقراءة عن الدين، وعدم اتخاذ الناس وسيلة للتعرف عليه، فنحن البشر مهما ارتقينا، ما زلنا قاصرين عن الفهم الكامل للدين، ولذلك من الأفضل أن تقرأ القرآن وتكتشف مدى جماله بنفسها.
في تمام الساعة 2 ظهراً كنت في بهو الفندق الموجود بجوار "الحديقة الإنجليزية"، هكذا كان اسمها، المكان جميل جداً يكسوه اللون الأخضر الرائع، وبه بحيرة جميلة على وشك التجمد. وجدت وسيم وكريستينا والكابتن ومساعده منتظرين، وقد تأخر بقية الزملاء، فقررنا الانطلاق لاستكشاف البلدة، وبالفعل ذهبنا سيراً على الأقدام لمحطة الترام القريبة جداً من الفندق، الطقس رائع، شتاء جميل، حيث كانت الشمس ترسل أشعتها على استحياء.
بعد صعودنا للترام تذكرت عدم شرائنا للتذاكر، قال لي وسيم: عادة لا أحد يسأل عن التذاكر اطمئني، وبالفعل لم يسألنا أحد، ورغم ذلك وجدت المواطنين يصعدون ويختمون التذكرة رغم عدم وجود رقيب!! مما دفعني لأجد إجابة لسبب انتشار الفاسد في بلادنا العربية، "لا يوجد رقيب ولا ضمير".
وصلنا لمحطة مارين بلاتز، شارع ينبض بالحيوية والجمال، نعم تجد الجمال في كل شيء، في الجو الرائع، وفي قطرات المطر المستحية، وفي هؤلاء الشحاذين المبدعين الذين يسعدوننا بمهاراتهم في الغناء والرسم والرقص وغيرها من الفنون المختلفة، لا يمدون أيديهم ولا يثقلون على الناس بدعواتهم وقصصهم المريرة، فقط يضعون علبه صغيرة أمامهم ويبدأون في عرض مهاراتهم، ولو أعجبك ما يقدمون تدفع المقابل الذي ترتضيه أنت في تلك العلبة، وجدتها طريقة مثلى للعرض والطلب، فيها من عزة النفس الكثير.
طلبنا أيس كريم والتهمناه رغم برودة الطقس، لكن الحماس بداخلنا كان كافياً لتدفئتنا، ظللنا نسير في تلك الشوارع التي بدت لي وكأنها مغسولة بالشامبو، لم أكن مهتمة بالتبضع، لكني كنت مستمتعة بكل لحظة هناك، تناولنا الغذاء في مطعم متواضع، طلبنا سمكاً مع قطع بطاطس مطهية في الفرن، كان لذيذاً لدرجة أنني كنت على وشك أن ألتهم البقايا في الصحن المقدم لي بأصابعي، ولكني خجلت.
تابعنا جولتنا بالسير دون كلل أو تعب، دقت الساعة 6، بدأت الناس تتزاحم أمام الكنيسة، الفضول دفعني أن أنتظر معهم حينها بدأت تصدح من داخل الكنيسة تراتيل بصوت جميل، ذكروني بالأذان، استمتعت بها ثم دخلت الكنيسة، بدت جميلة كما لو كانت تحفة معمارية أثرية، تذكرت المساجد القديمة في مدينة الألف مئذنة (القاهرة).
قارنت بين مدى اهتمام الدولة في "ميونيخ" بالكنائس والمباني الأثرية ومدى إهمال دولتنا بالآثار والتي تشكل ثلث آثار العالم، ومنها الجوامع والكنائس الرائعة الجمال..
خرجت من الكنيسة وجدت مقابلاً لها على اليسار محلاً عرضت فيه تماثيل بملابس داخلية، اعتقدته كذلك في الأول، ولكن مع اقترابي من المحل اكتشفت أنه محل لأدوات وأفلام جنسية، كانت الصدمة بالنسبة لي قوية، تسمرت قدماي وجحظت عيناي، مر من أمامي أناس كثر منهم رجال ونساء، دخلوا المحل وخرجوا وكأنه محل ملابس مثلاً.
سمعت صوت وسيم خلفي يعرض عليّ شراء بعض الكستنة المشوية، التفت له وكان وجهي مثل الجمر التي شويت عليها حبات الكستناء، ضحك وسيم وكأنه قرأ أفكاري، قال لي هنا كل شيء مباح ومسموح، ورغم ذلك تجدين أنه لا يوجد تحرش أو اغتصاب أو غيرها مما نراه في بلادنا، ترى لماذا وصلوا لهذا الكم من الحرية، ورغم ذلك تشعر بالأمان هناك أكثر من بلادنا التي تهتم بالتدين الظاهري، حتى الحرية لا مكان لها سوى في قصص الأدباء.
وتساءلت مراراً: هل تصح المقارنة بين ألمانيا بلد الأحلام وبلادنا مقبرة الأحلام؟!
عدنا للفندق بعد جولتنا القصيرة، ولكن لم تنتهِ زيارتي للبلد بعد.
(يُتبع)
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.