"من أين أنتِ؟"
وجَّهت سؤالها لي بلهجة تُخبرك دون شك بأن المتحدث راجعها مرات عديدة في رأسه قبل أن يسمح للسانه بأن ينطق بها، وبذل كل ما في وسعه لتخرج وكأنها بلغته الأصلية، وليست آتية من لسانٍ أعجمي.
أجبتها: "ميصر"
كما تُنطَق في اللغة التركية.
في منتصف الرحلة بين "إسطنبول" و"قونية" صعدت السيدة الستينية إلى القطار بصحبة من ظننتُها ابنتها وبصحبة طفلين صغيرين، فتاة وولد، عرفت لاحقاً أنها زوجة ابنها.
لا أعرف لماذا خَمّنت السيدة وهي توجّه سؤالها إليّ أنني لا أنتمي "لهم"، وأن عليها توجيه سؤالها لي بلغة أخرى؟!
ربما هو لساني الخشبي الذي لم ينطق بحرف، ربما ملابسي، لا أعرف.
لكنني وبعد هذا السؤال وهذه الإجابة انطلق التواصل، بكلمة عربية من هنا وكلمة تركية من هناك وإيماءات وطعام، بدءاً بيد ممتدة منها ببعض قطع البسكويت وانتهاءً بالكرز والخبز، أخرجتها الجدة وحثتني على مشاركتهم فيه.
بالطبع فعلت، كانت المرة الأولى التي آكل فيها الكرز كـ"غموس" للخبز، الكرز في ثقافتنا العربية، أو على الأقل المصرية، فاكهة تؤكل عقب الوجبات.
حاولتُ دعوتهم لاحتساء الشاي على حسابي عندما مرّ نادل القطار، فكانت يدهم أسرع مني.
أخبرتني الجدة بكلماتها العربية القليلة بأنها حاولت تعلُّم العربية في شبابها، وحضرت دورات تعليمية في ذلك، وكان الجزء الأكثر مرحًا في الرحلة هو التالي.
عندما أخذت الجدة الستينية في "تسميع" الكلمات العربية التي لازالت تحفظها، مثل أسماء الحيوانات: قطة، كلب، بقرة!
تخيّل معي المشهد الآن، جدة في الستين من عمرها تسمّع بصوت مرتفع لجارتها في القطار هذه الأسماء بكل ما أوتيت من شغف الحياة وبكل فرح، كادت تقفز من مقعدها كلما التقطت كلمة من ذاكرتها البعيدة!
بعد الحيوانات ذهبنا إلى أسماء الطعام.. ثم أسماء الإشارة: هو، هي، أنتم، نحن، ثم أسماء أفراد الأسرة: أب، أم، أخت، أخ!
كنت أضحك ملء شدقي وتسرج ذرات السعادة خيولها في روحي وأنا أجلس بجوار الجدة "عميرة"!
جدة جميلة تراكمت سنوات العمر فوق جسدها وروحها، ولازالت مسكونة بشغف قديم بأن تتعلم لغة أخرى وتنطق بفرح طفولي كلمات هذه اللغة متفرقة دون خجل.
عندما فتحت جهاز الكمبيوتر لأكتب بعض الملاحظات، "رشقت" الجدة "عميرة" أعينها في شاشتي ومدت أصبعها تلاحق الكلمات على السطر وتتهجّى الحروف كلمة كلمة، وسط ابتسامتي لتريني أنها تستطيع قراءة "العربية"، التي خرجت بلهجة أعجمية جميلة.
القطار السريع بين إسطنبول وقونية يستغرق 4 ساعات، تكلفته 85 ليرة تركية، تعادل ما هو أقل قليلًا من 30 دولاراً أميركياً.
عندما غادرنا القطار، وكعادة متكررة – تلازمني أحيانًا في سفري – لم أكن أعلم في أي فندق أبيت، في الحقيقة الرحلة لم يكن لها أية هدف سوى رؤية المكان.
اصطحبتي الجدة "عميرة" في سيارة زوج ابنة أخيها، الذي كان ينتظرنها في محطة القطار وصافح يدها بالقبلات، إلى الفندق الجميل الذي صار أحب مكان لي في تركيا كلها، والذي أتى موقعه في مواجهة مرقد مولانا "جلال الدين الرومي".
وضعت حقيبتي سريعًا، وكانت الساعة قد تجاوزت الحادية عشرة مساءً، وفعلت ما يفعله المسافر حينما يحطُّ رحاله. هل سألت ماذا يفعل؟
بالطبع يبحث عن الطعام!
كان الفندق أغلق مطعمه فخرجت إلى الساحة الشهيرة للبحث عن مطعم للعشاء.
في أول مطعمين لم أجد سوى كلمة "فنش" – أي انتهى الطعام – وبالمناسبة ربما هي المرة الأولى في حياتي التي أدخل فيها مطعمًا فيخبروني فيه بأن طعامهم نفد.
واصلت السير إلى المطعم الثالث، ليهديني الله خاتمة جميلة لهذا اليوم الطويل، الذي بدأ في السادسة صباحًا في إسطنبول.
استقبلوني في هذا المطعم الثالث بلطف وابتسامة وكباب شهي، سأعلم لاحقًا أن اسمه "الكباب الصوفي".
التهمت عشائي التهاماً، وبالكاد سرت الخطوات القليلة التي تفصل المطعم عن فندقي بتثاقل، وانقضت الليلة.
لكن بالطبع عدت لاحقًا لأسمع وأعرف أكثر عن الشيف "هاتچي"، التي لم يمنعها حاجز اللغة من أن تتبادل معي الود منذ اللحظة الأولى، هي أم لأربعة "أطفال"، يطاولونها، وبعضهم يدرس بالجامعة، أسماؤهم: "فرقان"، "بيت الله"، "پايزا"، و"چايدا".
لفت نظري اسم "بيت الله"، لطيف وغريب بالنسبة لثقافتنا العربية.
المضيف كان "مصطفى"، طالب في جامعة مرمري، ويتحدث الإنكليزية التي تمكنه من التواصل مع الغرباء، الغريب في تركيا يُطلق عليه "يابانچي".
بعد أن أصبحت زبونة دائمة لمطعم "الكباب الصوفي"، وامتلأت معدتي بما لذّ وطاب من كبابهم الشهي، جلست في اليوم الرابع للزيارة أنا و"هاتچي" نحتسي الشاي التركي، وكانت الليلة الأخيرة من الزيارة.
تحدثنا طويلًا عبر ترجمة مصطفى، عندما ذكرتها أنني من مصر، تركت الكلمة انطباعًا جيدًا لديها، وأخبرتني بأنها تود أن تسافر إليها يومًا ما، وأنها تود لو تأخذ إجازة من كل شيء وتسافر، وكان زوجها الذي يعمل أيضاً في المطعم واقفًا على مقربة، فاستقبل كلامها بابتسامة وتبادلا الضحكات جميعاً بعبارات تركية لم أفهمها، وعندما طلبت من "مصطفى" الترجمة، قال لي إن زوجها أيضاً لابد أن يأتي معها فابتسمت أنا أيضًا ووقفت لالتقاط الصورة التذكارية معهما.
قضيت وقتاً جميلاً في قونية.. بعض الصلوات في مقام "جلال الدين الرومي"، بعض التجول في المدينة الصغيرة، وكثير من الإفطارات الشهية في شرفة الفندق التي تطل على المرقد والساحة.
نسيتُ أن أقول لكم إن ذلك كان في شهر يوليو الماضي، في أول رحلة أقوم بها بعد انقطاع طويل عن السفر امتد منذ عام 2011 حتى 2015، سنوان شاهدت فيها ثورة وانقلاباً وقمت فيها بأداء الحج ومررت فيها بأوقات صعبة جدًا على المستوى الشخصي، والمهني، وبالطبع السياسي لبلادنا الحبيبة "ميصر"!
عودة إلى قونية.. أحببتها جدًا، لا أعلم لماذا نحب مكانًا أكثر من آخر، أعلم أنني أحببتها وكفى.
عندما سألتني صديقة لاحقًا عما شاهدت في قونيا وهي تعد خطتها للترحال، وهل تستحق المدينة أن يُشد إليها الرحال؟ أجبتها بأنني أحببتها: "كما تعلمين، الحب لا يحدث لأسباب، يحدث دون أسباب".
الرحلة كانت مقدرة في اللحظة التي دلفت فيها من رحم أمي إلى العالم؛ لأن تلاقي الأرواح أقدار، والأرواح ليست فقط بشراً، بل أيضًا أمكنة.
أحيانًا أتصور روحي كالنسيج المشدود بين الأماكن التي زرتها وأود العودة إليها، وبين الأماكن التي – ربما – مقدر لي أن أراها بعد
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.