هل سبق أن شعرت بأن الحياة ستكون أفضل لو اتبعت مساراً مختلفاً؟ لو أنك واصلت ذاك العمل، أو أنهيت علاقة ما أسرع، أو انتقلت للعيش في مدينةٍ جديدة. كل هذا مجرد خيال بالتأكيد، الاستطراد في مشاعر الندم طبيعة بشرية.
إذ نميل إلى النظر إلى الماضي والتفكير في أن تلك الفرص الفائتة –الحقيقية منها والمتوهمة- كانت من الممكن أن تضعنا على مسارٍ مختلف، وربما أكثر جدوى.
وإذا تُرِكت تلك المشاعر دون كبحٍ، فمن الممكن أن تشكِّل مصادر رئيسة للتوتر والقلق.
ولكن حتى المشاعر المؤلمة مثل الندم يمكن أن تكون بذاتها مصادر إلهامٍ فعالة.
سواء أكنت تشعر بالأسف حيال أشياء تفتقدها في مسعاك للكمال، أم كنت تشعر بالضيق بشكلٍ متواصل وعلى نحوٍ أكثر خطورة، أم تراودك أفكار مثل "فقط لو أمكنني كذا…"، فمن الممكن استخدام مشاعر الندم تلك كدافعٍ لمساعدتك على المضي قدماً، بدلاً من تركها تثقل كاهلك.
وهناك أسباب وجيهة لتفعل ذلك، إذ وجد الباحثون أن لاستحواذ مشاعر الندم تأثيراً سلبياً على الحالة المزاجية والنوم.
يمكن أن تزيد من الاندفاع والتهور، فضلاً عن كونها تشكل عامل خطورة يتعلق بالأكل بشراهة، وإساءة استعمال المشروبات الكحولية.
الأخصائية النفسية السريرية جينيفر تيتز توضح لصحيفة The New York Times أن إحدى مهامها مساعدة الناس ليعيشوا حياة صحية وسعيدة وذات مغزى، بتعليمهم استراتيجيات مستندة إلى الأدلة للتحكم في عواطفهم ومشاعرهم.
ويتضمن ذلك كيفية استخدام مشاعر الندم لتحفيزهم.
ووجدت أنه حتى حين يشعر الأشخاص بأنهم عالقون في كومة من الاحتمالات "ماذا لو"، فمن الممكن إعادة جدولة تلك المشاعر.
إليك ما ينبغي أن تفعله للتعامل مع هذه المشاعر:
الخطوة الأولى: التعامل مع مشاعر الندم
يحاول كثيرون منا دفع الألم بعيداً، في حين يميل آخرون إلى اجترار الأخطاء المتصورة وإعادة التفكير فيها.
ولكن سواء أكنت تتجاهل ما يثير قلقك أم تركز عليه، خلصت الأبحاث إلى أنه من المستحيل أن تتهرب من مشاعرك وانفعالاتك بلا عواقب.
وفي مفارقةٍ شديدة، فإن التهرب من المشاعر المزعجة في الوقع يجعلها أكثر حضوراً: بإمكان كبت عواطفنا أن يحد من قدرتنا على الشعور بالسعادة، وربما تظهر في صورة آلام جسدية.
لذا، بدلاً من محاولة تجاهل حسراتك، من الأفضل التدريب على الاعتراف بالتجربة.
جرِّب هذا: ابدأ في ملاحظة أفكارك وأحاسيسك في هدوء وبطء.
ثم أرخي وجهك ويديك، وركِّز تفكيرك على قبول ما تشعر به في اللحظة دون القلق من أن هذا الشعور سيساورك إلى الأبد.
استخرِج درساً يمكن تطبيقه في المستقبل
إن التوصل إلى منطقة تتوسط تجنب المشاعر المؤذية والإسهاب في التفكير فيها سيجعلك أقل إحباطاً وكآبة.
قد يكون الحديث عن هذا أسهل من فعله، لكن فكِّر في البدائل: خلصت دراسة نُشرت في دورية The Journal of General Psychology عام 2014، إلى أن الغرق في الشعور بالندم يمكن أن يضعف قدرتنا على اتخاذ قراراتٍ حكيمة، والتركيز على تلك المشاعر السلبية "يقوض أداءنا" في المهام البسيطة.
ورغم ذلك، وجد الباحثون كذلك أنه حين يعثر الناس على الجانب المشرق في شعورهم بالندم والأسف، يصبح بمقدورهم التفكير بشكلٍ أوضح.
قال نيل روزي، أستاذ التسويق بكلية كيلوغ للإدارة في جامعة نورث وسترن، والذي يركز على سيكولوجية الحكم واتخاذ القرار: "يمكن أن يمثل الندم مشكلةً، لكن إحدى مزايا الندم أنه يشير إلى أن التحسن محتمل. يكمن السر في تجنب الهوس وتفاديه، واستخراج درس يمكن تطبيقه في المواقف المستقبلية".
وكذلك، حين نجد أنفسنا مستهلكين بالنقد الذاتي، يصبح هناك ميل إلى التركيز على الإصلاحات السريعة، مثل تشتيت وإلهاء أنفسنا، بدلاً من اتخاذ خطوات للتحسين.
فضلاً عن أن الشعور بالأسف الذي ينتج من التقاعس، كالفرص الضائعة مثلاً، محبط للغاية.
خذ وقتاً كافياً لملاحظة كيف تتعامل مع شعور بالندم ساورك مؤخراً.
هل تظاهرت كأن ما حدث أقل حدة مما كان عليه، أم سقطت في دوامة من العار والأسف؟
بمجرد فهمك الكيفية التي تعاملت بها مع تلك المواقف، يمكنك البدء في استخدام عواطفك لمصلحتك.
الخطوة الثانية: أوقِف هواجسك.. ولا تلتهِ بـ "إنستغرام"
بمجرد تحديدك الطريقة التي تتعامل بها مع الأمر، من المهم أن تتعلَم كيفية منع دوامة الندم من أن تحدث.
إذ إن التفكير بلا انقطاعٍ في كل ما حدث لن يضمن لك سوى الشعور بسوءٍ أكثر.
توقَّف لحظةً لكتابة قائمة عواقب دوامة الشعور بالأسف الأخيرة، مثل التفكير ساعاتٍ في خطأ ما ارتكبته، واحتفظ بتلك الملاحظات لمراجعتها.
هل شعرت بتحسنٍ أم ساورك شعور أسوأ؟ هل خلصت إلى دروسٍ محددة تعلمتها من التجربة؟ أم هل شعرت فقط بالسوء؟
الهدف من هذه القائمة هو إدراك أن تلك الدوامات الفكرية لن تثمر أي شيءٍ، وعلى الأرجح، ستتركك عالقاً.
بعدها، فكِّر في الأوقات التي تميل فيها إلى التفكير ملياً فيما تأسف عليه، مثل الوقت الذي يسبق خلودك إلى النوم مباشرةً.
سيساعدك وجود هذه القائمة في متناول يدك على أن تضع باعتبارك أن التركيز على الأشياء التي تندم عليها طاقة مهدرة.
وأخيراً، اعمل على تطوير مجموعة من الخيارات البديلة الملموسة، والتي ستنخرط فيها حين تشعر بأنك على حافة دوامة الشعور بالندم وتوشك أن تقع فيها.
إن الهدف هنا هو اعتراض مسار هذا النوع من التفكير قبل أن يستهلك طاقتك.
ومن الأمثل ألا تشتمل تلك الخيارات البديلة على محاولة التنفيس عن النفس أو تفقُّد تطبيق إنستغرام، فيمكن أن يزيد هذا تعقيد مشاعر الندم لديك.
تحكَّم في مشاعرك واستخدِم الماء المثلج!
أحد الأنشطة التي يُنصح المرضى بتجربتها إدراج أسماء مؤلفيهم المفضلين أو مغنيهم بالترتيب الأبجدي مثلاً.
حين يركز ذهنك في مهمة ما، فمن غير المحتمل أن يحيد عن مساره.
وهناك فكرة أخرى: إذا كنت تشعر بتحكم المشاعر فيك بصورة قوية، فاغمر وجهك في الماء المثلج.
إذ قالت كاثرين كورسلوند، الخبيرة في العلاج السلوكي الجدلي، وهو علاج يعلم الناس كيفية التحكم في مشاعرهم: "يصبح الناس مؤمنين بهذه الاستراتيجية بمجرد وصولهم إلى غمر وجوههم في وعاء من الماء المثلج".
وأضافت أنَّ غمر الوجه في الماء المثلج أمر مجدٍ؛ لأنه يزيد من النشاط في الجهاز العصبي اللاودي، ويخفض درجة حرارة الجسم وكذلك معدل ضربات القلب، وهو ما يمنع المشاعر من أن تشتد حدتها.
إن بدت لك تلك الاستراتيجية منفِّرةً، فضع مكعباً من الثلج في فمك وركِّز على أحاسيسك.
ستجد أنه من الصعب استعادة أخطاء حياتك السابقة في الوقت نفسه الذي تشارك فيه بشكلٍ كامل في القيام بعملٍ آخر.
ضع في اعتبارك: ليس المقصود أن تكون تلك الأنشطة حلاً دائماً؛ فالهدف هو تنظيم مشاعرك بضع دقائق، لتقترب بعدها من حالتك النفسية مع قليلٍ من الوضوح.
الخطوة الثالثة: أعِد النظر في شعورك بالأسف، ومن ثم كرِّر تلك العبارات
في الدراسة ذاتها التي خلصت إلى أن الشعور بالندم يحد من قدرتنا على حل المشكلات، طُلب من المشاركين قراءة العبارتين التاليتين، وذِكر فائدة واحدة على الأقل من حدثٍ مؤسف:
- كلُّ شيءٍ يمكن رؤيته من منظورٍ مختلف.
- ثمة قيمة إيجابية في كل تجربة.
بعد ذلك، أظهر المشاركون "أداءً لاحقاً أفضل" في مجموعة المهام نفسها التي أنجزوها قبل التوصل إلى الجانب المشرق.
وبعبارةٍ أخرى، يمكن أن يساعدك التركيز على المكاسب من التجربة على البعد عن الآثار السلبية للندم.
ضع في اعتبارك أن قدراً كبيراً من القصة أو الحكاية التي تسبب لك الشعور بالندم هو مجرد قصة.
حتى إن الباحثين ينعتون قصص "ماذا لو" الآسفة بأنها أفكار افتراضية؛ نظراً إلى أنه من المستحيل معرفة ما الذي كانت ستؤول إليه الأشياء لو أنك اتخذت قراراً مختلفاً.
الخطوة الرابعة: تعامَل مع نفسك كما قد يفعل مرشدك المثالي
طلب باحثون بجامعة كاليفورني في مدينة بيركيلي، من 400 طالب أن يكتبوا عن مصدر ندمهم الأكبر، ووجدوا أن التعاطف الذاتي، وليس جَلد النفس، "يحفِّز التكيف الإيجابي في مواجهة شعور الندم".
وكتب الباحثون أنَ "هذا التعاطف الذاتي أدى إلى درجة أكبر من تحسن الذات، جزئياً، من خلال القبول المتزايد للنفس".
وأضافوا أن "مسامحة النفس والغفران ينبعان من إدراج عيوب الفرد وأوجه نقصه، أو من الفشل –مثل تجربة الأسف والندم- باعتبار ذلك جزءاً من التجربة الإنسانية المشتركة".
تخيَّل أن مرشدك الخاص يحاول تهدئتك بعد نوبةٍ من الشعور بالأسف.
هل ستركز على كل ما اقترفته من أخطاء؟ أم أنها ستشجعك على ألا تقسو على نفسك، وأن تحاول بدلاً من ذلك أن تستخلص الدروس العملية الملموسة التي يمكنك تعلمها من التجربة؟
حين يفشل كل شيءٍ آخر: فقط تحدَّث إلى نفسك كأنك تتحدث إلى صديق.
الخطوة الخامسة: وضِّح ما يهمك
حين يساورك شعور عميق بالأسف -ذلك النوع الذي يجعلك تتساءل عن مكانتك في الحياة، بدلاً من الندم على الكلام السخيف الذي قلته لرئيسك في المصعد- استخدِم شعورك هذا باعتباره نقطة انطلاقٍ لاكتشاف ما هو مهم حقاً بالنسبة لك.
ابحث عن القيم التي ترغب في الحفاظ عليها، والقيم التي هي جوهر هويتك وأساسها.
خذ وقتاً كافياً لتسأل نفسك لماذا تشعر بهذا الأسف العميق، واعمل بطريقةٍ أخرى على تحديد القيم التي ترتبط بمشاعرك.
يمكن أن يساعدك حل تلك العقدة واكتشافها في استخدام هذا باعتباره دافعاً لنضج شخصيتك.
الخطوة السادسة: اشرع في التحرك
ثمة نوع من الفن الياباني يُعرف باسم "kintsugi"، وتعني ترجمته حرفياً "الإصلاح الذهبي أو golden repair". لكنه يعني ما هو أكثر من ذلك.
إذ يعتبر فن Kintsugi فلسفة إصلاح الأشياء المكسورة، كالشقوق في الأواني الفخارية على سبيل المثال.
فبدلاً من محاولة إخفاء عيوب قطعة ما، تبرزها عملية الإصلاح بشكلٍ أفضل.
تعتبر تلك العيوب جزءاً من تاريخ صناعة قطعة ما، وإصلاحها بهذه الطريقة يمكن أن يضيف جمالاً إلى العناصر الأصلية، مثل استخدام المعادن الثمينة لإصلاح الشقوق في الأواني الفخارية.
دوِّن قائمةً بحسراتك الكبيرة منها والصغيرة، ثم اطرح أفكاراً محدة لكيفية اتخاذ خطوات لعلاج كل ما يطاردك من هواجس.
لا يتمثل العلاج المطلق والنهائي في استباق الندم والأسف في الشعور على نحوٍ سيئ أو التفكير الزائد على الحد، بل البحث عن الحلول بشكلٍ مدروس، واستخدام الحكمة المكتسبة من التفكير والتأمل الذاتي للتصرف استناداً إليها.
جينيفر تيتز: محاضِرة إكلينيكية بمجال الطب النفسي في جامعة كاليفورنيا بمدينة لوس أنجلوس، ومؤلفة كتاب "How to be Single and Happy: Science-Based Strategies for Keeping Your Sanity While Looking for a Soul Mate"، وكتاب "End Emotional Eating".