صرح السيد وزير التعليم العالي بالمغرب بأن اللغة الإنجليزية شرط أساسي لمناقشة أطروحات الدكتوراه، وقد تبع هذا القول إرسالية صادرة عن وزارة التعليم العالي تلزم الطالب الباحث في سلك الدكتوراه بعدة شروط تصب كلها في نهر إتقان اللغة الإنجليزية، لكن هذه الإرسالية تعاني من اللامنطق للأسباب التالية:
– أولاً: إلزامية الطالب الذي سيناقش أطروحة الدكتوراه، أن يكتب مقالا باللغة الإنجليزية، أظن أن هذا الشرط مجحف وغير منطقي ولا يتلاءم مع الوضعية الحالية، اليوم يجب أن يتأهل الطالب لأن يكتب مقالاً باللغة العربية؛ لأن المشكل ليس في اللغة التي هي الحامل للبحث (خصوصاً في مجال القانون)، بل المشكل في جودة البحث العلمي، وجودة المقالات والأبحاث.
بحيث جاء في مقدمة الإرسالية بما مضمونه: "تحقيقاً من لدن الوزارة لإيجاد تناغم بين البحث العلمي والمحيط كفاعل مؤثر في هذا الأخير يجب فرض اللغة الإنجليزية كمعيار للرقي بالأطروحات"
… وهذا القول مردود عليه لأنه ليست اللغة هي التي ستحقق هذه الفاعلية المرجوة من البحث العلمي، بل أولاً جودة البحث العلمي، ثم انفتاح الجامعة على المحيط وهذا من بين مهام وزارة التعليم العالي، أظن أن كتابة مقال باللغة الإنجليزية ضرب من الخيلاء، وممارسة للتخييل؛ لأن الطالب يجب أن يتقن اللغة الإنجليزية، من أجل البحث في المراجع الإنجليزية والاستفادة من التجارب المقارنة، لا أن يلزم لأن يكتب مقالاً باللغة الإنجليزية، وهذا الأمر ما زال غير محقق حالياً لعدة أسباب لا يتسع المجال لذكرها.
– ثانياً: أن يكون هنالك أستاذ ملم باللغة الإنجليزية، السؤال هل الإلمام باللغة الإنجليزية من حيث قواعدها اللغوية والصرفية، أم ملم باللغة الإنجليزية التقنية المرتبطة بالمجال المناقش فيه الأطروحة (على سبيل المثال القانون)؟، إن كانت هذه الفرضية الأخيرة هي الصحيحة، فيجب من الآن أن نبحث عن أساتذة من بريطانيا لتناقش الأطروحات؛ لأن المعظم لا يلم بالإنجليزية، قد يستطيع البحث عن المراجع بها، لكن أعتقد أن يلم بالإنجليزية بطريقة متعمقة مستحيل، في ظل الاجتياح الفرنكوفوني الذي عمّر زهاء 100 سنة في المغرب، وما زال معمراً له.
– ثالثاً: إذا ما تعمقنا في الشرط الأخير الذي يتعلق بأستاذ ملم باللغة الإنجليزية، هذا يعطي انطباعاً بأن الأساتذة الآخرين غير ملمين باللغة الإنجليزية، وقد يكون المشرف على الأطروحة من بين الأساتذة غير الملمين باللغة الإنجليزية، فكيف سيكون الطالب أكثر إلماماً من أستاذه؟ وكيف سيتم تقييم مقاله المكتوب باللغة الإنجليزية؟ إذا ما افترضنا قدرته على كتابته لهذا المقال، وأي المجلات قدرة على نشر المقال بعد عرضه على لجنة تحكيم ملمة بجوانب اللغة الإنجليزية، ولعدم تعميم هذا الطرح سيكون من اللازم أن نطبق هذا على كلية الحقوق؛ لأنها هي المؤسسة التي أنتمي إليها، فكل ما قلناه ينطبق كثيراً على كلية الحقوق.
– رابعاً: إن الانتقال من اللغة الفرنسية إلى اللغة الإنجليزية أمر مهم وموفق إلى حد ما، إلا أن هذا التغيير يجب أن يكون تدريجياً، وأن يبدأ التغيير من القاعدة لا من رأس الهرم.
خامساً: إن أزمة البحث العلمي أكبر من أن تكون أزمة لغة، فما زال البحث العلمي بالعالم العربي ضئيلاً متأخراً، ولم يستفِد من هذا التقدم التكنولوجي، إن العلم ليس له حدود تحده ولا زوايا تضبطه على مستوى الإبداع والتفكير، وقد عرف العالم الفيزيائي ألبرت أنشتاين لمفهوم "العلم" بأنه: "التفكير المنهجي الذي نوجهه نحو اكتشاف الارتباطات التي تنتظم وفقاً لما لها تجاربنا الحسية"(1).
لكن حسب بعض الباحثين، فإن مفهوم العلم يساء استعماله سواء من خلال الكتابة حوله، أو من خلال تحديد معناه، ويبدو أن العلماء كذلك لا يستطيعون تحديد مفهوم العلم (2)، والسبب يرجع في كثرة المناهج المستعملة، والتي غالبا لا تتلاءم والعلم نفسه، إن عدم التحديد لمفهوم العلم سبب كافٍ لأزمة في البحث العلمي.
كما أن العالم العربي والإسلامي يعيش انتحاراً علمياً وأزمة بحثية، بل إن التكنولوجيا التي ساعدت الغرب في تطوير البحث العلمي، لم تزد البحث العلمي في العالم العربي إلا تأخراً، ولم يبقَ لبحوثنا أي قيمة، سوى أوراق مكومة في خزانات الجامعات العربية.
ولقد سمعت بعض أساتذة الجامعة يرددون قولاً طريفاً، لكنه في الصميم وهم يصفون بحوث الطلبة اليوم: "إنهم يضيعون الأوراق والحبر بلا طائل"، رغم قساوة التعبير فإنه وصف دقيق لحالة واقعية يعاني منها البحث العلمي.
إن أزمة البحث العلمي في العالم العربي خصوصاً في المغرب، مردها إلى عدم تواصل الجامعة مع المحيط، أي إن الجامعة لا تلعب أي دور مؤثر في المحيط السياسي والاجتماعي والاقتصادي، فلو افترضنا جدلاً أنه قد قام باحث بإنتاج بحث يحل مشكلاً سياسياً أو اقتصادياً أو علمياً، فإنه سيتم التصفيق له، وتبجيل عمله، ثم وضع بحثه في رفوف الجامعة ليتسرب إليه القدم وتنتشر فوقه الأتربة، فلا تستفيد منه الهيئات المعنية في حل مشاكلها.
كما أن الأزمة ليست خارجية فحسب، بل تمتد إلى ما هو داخلي، أي ما يتعلق بمضمون البحث نفسه، الذي يسقط في النظرية التي في كثير من الأحوال لا تتلاءم مع الواقع، إذا ثم الاطلاع على مجموعة من البحوث العلمية في شتى المجالات سيجد بحوثاً نظرية ليست ذات جدوى، أو بحوثاً حسب بعض الباحثين لا تتمتع بالأصالة، أو تسقط في السرقات العلمية المتكررة من بحث إلى آخر (3).
كما أن الإحجام عن الإبداع والتفكير أمر سلبي يدمر البحث العلمي، ذلك أن استخدام العقل متطلب أساسي في مجال البحث العلمي، والانكباب نحو الإخلاص الأعمى للمنهج والمنطق، حتى أصبح الباحثون يتكلفون إرضاء للمنهج والمنهجية، لكن هذا يتعارض مع عدم حدود العقل، نحن لا ننكر دور المنهج وأهميته القصوى، لكن ربما الباحثون لم يفهموا جيداً معنى استخدام المنهج واحترامه، ويبدو هذا جلياً في بعض الأبحاث التي لا تجد فيها إلا المنهج حاضراً في المقدمة معلناً عنه لكن بلا مضمون يوظف فيه المنهج، وهذا قتل واضح لملكة التفكير، يقول "إمانويل كانت" حول العقل ما يلي:
"للعقل البشري، في نوع معارفه، هذا القدر الخاص: أن يكون مرهقاً بأسئلة لا يمكنه ردّها؛ لأنها مفروضة عليه بطبيعة العقل نفسه؛ ولا يمكن أيضاً أن يجيب عنها؛ لأنها تتخطى كليا قدرة العقل البشري"(4).
وهناك أمر آخر مؤثر في مجال البحث العلمي هو الإنفاق الضئيل للعرب على البحث العلمي، فحسب بعض الدراسات، إن العالم ينفق حوالي 2.1 بالمائة من مجمل دخله الوطني على مجالات البحث العلمي، أي ما يساوي حوالي 536 بليون دولار، ويعمل في مؤسسات البحث العلمي في العالم ما يقارب 3.4 مليون باحث، أي بمعدل 1.3 باحث لكل ألف من القوى العاملة… وهذا المبلغ ليس لأمة العرب فيه سوى 535 مليون دولار (5).
إن هذا رقم خطير جداً، ولا يعيه العرب، وهم يمشون في غرور لا ينظرون إلا للتسلية في المقاهي وعبر الإنترنت، ولا يعيرون لهذه الأزمة أي اهتمام، وكأنهم في مجال البحث العلمي متقدمون، والوصف الذي أطلقه الدكتور علي الوردي على علماء القرن التاسع عشر، لينطبق على العرب اليوم، وقد جاء في هذا الوصف ما يلي:
"… من الممكن اعتبار القرن التاسع عشر قرن الغرور العلمي. فكان العلماء في غرورهم فيه كمثل ذلك التلميذ الذي يدخل الجامعة لأول مرة فيندهش بما تعلم في الصف الأول منها من مبادئ العلوم الحديثة ويأخذه عند ذلك العجب والخيلاء؛ إذ يتصور أنه قد استوعب كل أسرار العلم وتمكن من حل جميع المشاكل…"(6).
إن حال العرب لن يتغير إلا بالعلم، والعلم لا يستقيم حاله إلا بالبحث العلمي، واليوم الكل يحن إلى الماضي سواء القريب أو البعيد الذي كانت فيه للعرب والمسلمين بصمة في مجال العلم والإبداع والتفكير.
فلا بد للجامعات العربية أن تستيقظ من سباتها العميق، فلا ازدهار إلا بالعلم والعلماء، وهذا أمر من البديهيات التي أضحت ترفع كالشعارات في التليفزيون وفي الخطب والمنابر، دون أي تفعيل.
فالجدية في البحث العلمي متطلب أساسي، كما أن محاولة تثقيف الباحثين وتزويدهم بأهم الخبرات العملية والمنهجية أمر مهم جداً، فاليوم عندما تفتح أهم كتب المناهج المؤلفة في العالم العربي، تجدهم يتحدثون عن المناهج وتعريفاتها وخصائصها بطريقة نظرية جافة، فلا يستوعب الطالب هذه المناهج، وهكذا عندما يريد استعمالها، في أحد أبحاثه، لا تجده سوى قد أعلن عنها في مقدمة بحثه، وقد قدم لنا أحد التعاريف النظرية التي استقاها من الكتب المؤلفة في المناهج، دون أي تطبيق عملي لها في بحثه، مع العلم أن المنهج لا يجب أن نعلن عنه بطريقة متكلف فيها، بل يجب أن يظهر للقارئ في جنبات البحث.
لذلك وجب التفكير ملياً في التأليف حول المناهج بطريقة مختلفة وعملية أكثر، ومحاولة ملاءمة النظرية مع الواقع العلمي على مستوى تطبيق المنهج، فلا تتوحد العلوم بطبيعة الموضوع وإنما بالمنهج المستعمل، فما يميز المدخل العلمي عن أساليب المعرفة الأخرى الافتراضات الأساسية التي يرتكز عليها العلم(7).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- ألبرت أنشتاين، أفكار وآراء، ترجمة رمسيس شحاتة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986، ص. 252.
2- شافا فرانكفورت – ناشيماز وديفيد ناشيماز، طرائف البحث في العلوم الاجتماعية، ترجمة: الدكتورة ليلى الطويل، بترا للنشر والتوزيع، دمشق، الطبعة الأولى، 2004، ص. 15
3- عبدالفتاح خضر، أزمة البحث العلمي في العالم العربي، سلسلة صادرة عن مكتب صلاح الحجيلان، الرياض، الطبعة الثانية، 1992، ص. 29-32
4- إمانويل كانط، نقد العقل المحض، ترجمة موسى وهبة، مركز الإنماء القومي بيروت، غير مذكورة سنة الطبع، ص. 25
5- محسن الندوي، أزمة البحث العلمي في العالم العربي: الواقع والتحديات، مقال منشور في جريدة هبة بريس عبر الرابط التالي:
http://www.hibapress.com/details-5163.html
6- علي الوردي، خوارق اللاشعور أو أسرار الشخصية الناجحة، دار الوراق، لندن، 1996، ص. 21-20.
7- شافا فرانكفورت – ناشيماز وديفيد ناشيماز، مرجع سابق، ص. 24.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.