(جيب، تجيب، ظل، تظل) 4 مفردات يصدح بها أستاذ الرياضيات في الصف الحادي عشر (علمي) كالديك، يردد قواعد مادة المثلثات على مسامعنا بروتين فائق الرتابة، يكتب على لوح الطبشور الرمادي الكئيب ككآبة أيامنا في مدارس البعث.
يبدأ يومنا العادي الواقع في منتصف التسعينيات في مدارس البعث بالاجتماع الصباحي في باحة المدرسة وترديد الشعارات الببغائية، والتي لا أذكر منها إلا القضاء على عصابة الإخوان المسلمين العميلة، وبأننا أمة عربية واحدة… ذات رسالة خالدة. على مدى اثني عشر عاماً كنا نردد نفس الشعار كل صباح وفي كل يوم مدرسي، لقد غرست هذه الشعارات في "منطقة اللاوعي" الخاص بكل طالب سوري. يمضي يومنا في مدارس البعث بتلقي دروس في التاريخ والجغرافية والرياضيات والعلوم الطبيعية والفلسفة والكيمياء والفيزياء. إلى هنا كل شيء اعتيادي، ولكن أن تضيف لكل هذه العلوم مادة التربية القومية ومادة التربية العسكرية كما كانت تسمى، فهذا يعني بأنك في مدارس البعث.
يبدأ درس التربية العسكرية بالزحف على أرض الباحة ببذاتنا العسكرية والتي هي لباسنا المدرسي، نزحف ونزحف ونزحف كعقوبة استباقية على سلوكنا المشاغب!. لننتقل بعد ذلك وفي نفس الحصة إلى درس "النظام المنضم" لتعلم أساسيات وفنون التحية العسكرية ونختبر مدى قوة خبطاتنا على الأرض أثناء أدائها، كنا نتنافس فيما بيننا من هو صاحب الخبطة الأقوى، ثم نذهب إلى دراسة البارودة التشيكية من طراز عام 1936، فنتعلم كيفية فكها وتركيبها وتنظيفها واستخدامها.
ينتهي درس التريبة العسكرية ليبدأ درس "القومية" مادة كاملة وكتاب كامل و3 ساعات في الأسبوع لمادة القومية، والتي تندرج مهمتنا في قراءة إنجازات الحركة التصحيحية وحفظ أقوال الأب القائد الخالد – على حد تعبيرهم – حافظ الأسد. لقد كان مدرس القومية يسرد بكل فخر واعتزاز إنجازات الحركة التصحيحية وثورة الثامن من آذار، ويستفيض في شرح أهداف حزب البعث العربي الاشتراكي المتمثلة في الوحدة والحرية والاشتراكية. طبعاً كانوا يقصدون الوحدة العربية وحرية الإنسان العربي تحت مظلة نظام اشتراكي مستورد من بقايا الاتحاد السوفييتي.
بعد كل ذلك، يأتينا أستاذ الرياضيات ليلقي على مسامعنا قواعد المثلثات بشكل ميكانيكي، كمقرر دراسي عليك أن تفهمه وتفهم قواعده وتنجح به، حرصاً على مستقبلك في بلاد العم حافظ… حافظ الأسد.
كطالب مراهق في السادسة عشرة من عمري، لم أكن أفهم أو أدرك لم علينا دراسة المثلثات فما هي فائدتها في حياتنا العملية، لم يكن في كل كتاب المثلثات اللعين، مثال تطبيقي واحد عن استخدام علم المثلثات في حياتنا اليومية. اليوم أحمد الله بأنني لم أدرس المثلثات جيداً فلا بحوث فضائية في البلد الذي انحدرت منه لقياس المسافات ما بين المجرات، ولا أراض أستطيع قياسها وامتلاكها، فقد كانت جميعاً ملكاً للبعث والأب القائد والفلاح، ذلك الفلاح الذي جاءت الحركة التصحيحية لتمنحه الأرض على اعتبار أن "الأرض لمن يعمل بها".
في بلاد العم حافظ، تبدأ طفولتك في المرحلة الابتدائية كعضو صغير في منظمة طلائع البعث، يخاطبون لا وعيك ويهيئونك فكرياً وإيديولوجياً لتكون فرداً في القطيع، لتنتقل في المرحلة الإعدادية والثانوية إلى اتحاد شبيبة الثورة وهنا يبدأون باستقطابك إلى صفوف حزب البعث العربي الاشتراكي الموحد إما بالترغيب أو بالترهيب، وإن كنت ممن انضموا إلى هذا "الحزب العملاق" – مفردة من الموروث الثقافي الخاص بأبناء جيلي تستخدم للإشارة إلى حزب البعث – فإنه لك الخيار بأن تكون عضواً عاملاً أو عضواً نصيراً يتم استخدامك في الحشود الجماهيرية والتصفيق وحلقات الدبكة الخاصة بمبايعة الأب القائد حافظ الأسد، أو المسيرات الحاشدة للتنديد بالاحتلال الأميركي للعراق، أو أي مناسبة قومية أخرى.
في المرحلة الجامعية كان هناك اتحاد طلبة سورية وهو النسخة المحدثة عن اتحاد شبيبة الثورة والمخصصة لطلاب المرحلة الجامعية، لقد كان اتحاد طلبة سورية هو المنشأة الأعلى في تخريج عناصر مثقفة حزبياً لترهيب الطلاب وإعادتهم إلى الإسطبل البعثي في حالة ضل أحدهم عن سبيل القطيع.
بالعودة إلى مادة المثلثات فقد كان هناك الكثيرون من الطلاب السوريين الذين أتقنوا قواعد هذه المادة وأغلب الظن ليس حباً منهم بها، بل تحقيقاً لحلمهم بدخول كلية الهندسة أو الطب أو الصيدلة، فالعلم بالمعيار السوري غايته رفع رأس العائلة عالياً وليس التعليم بمفهومه المجرد أو الدفع بعجلة البحث العلمي.
مجتمع مقولب لغايات مقولبة إلى أن كُسر القالب.!!!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.