لا تضحي لأجلنا كالأمهات.. لمصلحة من تعمل الحكومة؟

عربي بوست
تم النشر: 2020/07/21 الساعة 11:36 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/07/21 الساعة 11:36 بتوقيت غرينتش
لا تضحي لأجلنا كالأمهات.. لمصلحة من تعمل الحكومة؟ - Istock

ساعدت الظروف السياسية والاجتماعية لأزمة كورونا على تجسيد مفهوم "الدولة" بشكل بارز، ويمكننا رؤية ذلك في اصطفاف الشعوب وراء دولهم ومؤسسات الدولة الصحية تحديداً، معتبرين إياها الأم التي ستحميهم من الفيروس الشرس، ولو على حساب نفسها. باعتبار أنها، أي الدولة، تعمل دائماً وأبداً لما يصب في مصلحة المواطن. لكن، وفي ضوء سياسات سيئة السمعة، مثل مناعة القطيع، أو عدم تطبيق حالة الإغلاق العام بشكل صارم، أو رفض الإغلاق من الأساس، وارتفاع معدلات العدوى والوفيات في العالم. ينبغي أن نتساءل: هل الدولة هي حقاً ماما؟
هل تضحي الدولة بالغالي والنفيس لصحة مواطنيها وسعادتهم؟

هل دول العالم بمختلف توجهاتها تسعى لمصلحة الإنسان وسلامته بغض النظر عن أي اعتبار آخر؟

في هذه المقالة سأحاول تتبع تحركات الحكومات والسلطات في خضم أزمة كورونا، لعلها تساعدنا على رسم صورة أوضح تمكننا من الإمساك بطرف خيط الإجابة.

ما هي الدولة؟

وفقاً  للتعريف الوارد في اتفاقية مونتيفيديو المعنية بحقوق وواجبات الدول في عام 1933، عُرِّفَت الدولة بأنها: مساحة من الأرض تمتلك سكان دائمون، إقليم محدد وحكومة قادرة على المحافظة والسيطرة الفعَّالة على أراضيها، وإجراء العلاقات الدولية مع الدول الأخرى. أي أن الدولة تعتبر كياناً اعتبارياً تعاونياً، والحكومة هي النظام السياسي الذي يتم من خلاله إدارة هذه الدولة.
وفي عام 1978 عرض الفيلسوف الفرنسي "ميشيل فوكو" تحليل أكثر وضوحاً لجوهر الدولة الحديثة، ويمكن لهذا العرض إثلاج صدورنا والإجابة عن بعض التساؤلات إذا ما تمعناه جيداً. خلال مجموعة محاضرات ألقاها تحت عنوان (Sécurité, territoire, population) أي "الأمن والإقليم والسكان"، استناداً إلى تاريخ أوروبا تحديداً، نوّه فوكو إلى أن اهتمام الدولة بحياة المواطنين مرتبط بظهور مفهوم "الحوكمة" بالمعنى الحديث. حيث يرى أن تاريخ الدول الأوروبية الحديثة هو تاريخ التحول من "النظام السيادي" أي الحكم المطلق للفرد، إلى "نظام حكومي" يعزز من حكم السكان ككل عن طريق أجهزة الأمن المختلفة.
أعطى فوكو معنى آخر لأجهزة الأمن بخلاف المعنى الشائع في الأذهان، حيث قصد أنها عبارة عن تقنيات وعلوم ومؤسسات تهدف إلى تأمين حياة السكان ككل لكن فيما يصب في مصلحة عجلة الاقتصاد. 

ولنوضح أكثر، الحكومات في الدولة الحديثة هي من تحكم الاقتصاد. وبناءً على ذلك فإنها تسيطر على السكان والموارد والأرض بهدف تحقيق النمو الاقتصادي. وبذلك يمكنها الحفاظ على قيام الدولة وتقدمها، ويتم ذلك من خلال اتباع الحكومات لما يُعرف بـ"السياسة الحيوية" والتي تتحكم بحياة السكان بشكل تقني، ومن ثم تمكنها من التحكم بالاقتصاد.

من أجل الدولة أم الإنسان؟ 

تأثرت سلباً اقتصادات كل دول العالم خلال فترة الوباء، لا سيما الدول العظمى بالتحديد، ما أعطي الفرصة للتمعن في سلوك الحكومات وسياساتها الحيوية التي تستهدف إنقاذ الاقتصاد في المقام الأول دون اعتبارات ذات ثقل لإنقاذ حياة المواطنين إلا في إطار إنقاذ الاقتصاد. التأخر في إجراءات الإغلاق العام أو التسرع في إجراءات تمهد للعودة إلى "الحياة الطبيعية" في بعض الدول رغم استمرار ارتفاع عدد الاصابات كان دليلاً على ذلك. ناهيك عن البروتوكولات الطبية المتبعة في كثير من الدول، والتي تضحي ضمنياً بالمصابين غير الفاعلين اقتصادياً، أي كبار السن.
على سبيل المثال، في ذروة تفشي الوباء وضعت الحكومة في إيطاليا بروتوكولاً طبياً لتقرير من سيعيش ومن سيموت إذا ما استعدت الحاجة. وبحسب وثيقة أعدتها وحدة إدارة الأزمة بمدينة تورينو وأصدرتها إدارة الحماية المدنية إقليم بييمونتي شمال إيطاليا، فإن مصابي فيروس كورونا البالغ عمرهم 80 عاماً فما فوق، أو من يعانون من مشاكل صحية كبيرة قد يحرمون من دخول الرعاية المركزة في حالة تزايد الضغط على المستشفيات، دون إشارة واضحة لما يتوجب على الأطباء فعله تجاه أولئك المصابين. تختار الحكومة الفئة الأقوى صحياً والأنفع للاقتصاد للبقاء على قيد الحياة، دون أي اعتبار آخر. وقد أعطت الحكومات نفسها الحق في أن تعتبر السكان تعداد بشري يمكن حصره وتقسيمه إلى فئات أجدر بالعيش دون الأخرى عن طريق العلوم الإحصائية والديموغرافية والطبية الحديثة.

مثال آخر هو الدولة صاحبة أكبر اقتصاد في العالم،الولايات المتحدة الأمريكية، الدولة غير المستعدة لإعالة كل المصابين. ذكرت صحيفة الغارديان أن واحداً من كل 10 أمريكيين ليس لديه تأمين صحي، بالإضافة إلى عدم وجود قانون يجبر الشركات على دفع جزء من الراتب للموظف المريض، ما دفع الموظفين المرضى للذهاب إلى العمل وأدى إلى ارتفاع عدد الإصابات. هذه القوانين تصب في مصلحة الاقتصاد، بينما لا تكترث كثيراً لصحة المواطنين. 

إن انتقال الدولة من حكم السيادة المطلقة للحاكم، لسيادة الحكومة لم يحسن كثيراً من نظرة الدولة للإنسان. وفقاً لفوكو بعدما تشخصت الدولة في الحكومة، توجب أن تعمل الدولة على رعاية المواطنين وإدارة الموارد من أجل تحقيق غايات اقتصادية وزيادة الإنتاج. أي أن أساس التعامل مع الإنسان اقتصادي بالمقام الأول، ويخضع لحسابات الربح والخسارة. وبناء على ذلك، تقرر الدولة من سيعيش ومن سيموت كقربان للاقتصاد بغض النظر عن أي عامل آخر.
فإذا كان الحال يسير على هذا النحو في الدول التي تدعي السبق بالاهتمام بالإنسان، فما بال الدول التي لا تزال تعاني من حكم الحاكم الواحد المستبد الذي يسعى دائماً  وأبداً للمحافظة على سلطته. رصد فوكو حال تلك الدول التي وصفها بالناقصة، إذ تمتلك حكومة وسلطة تشريعية وأخرى قضائية لكن بشكل صوري فقط.
ولنأخذ مصر، التي فتحت أبوابها من جديد على رغم من أنها تشهد أكبر عدد للإصابات لها منذ انتشار الوباء، مثالاً على ذلك.

مصر كمثال

في بداية أزمة الفيروس اتخذت الدولة المصرية قرارات يمكننا وصفها بالغريبة. فقد قررت الحكومة إغلاق المساجد والكنائس والمقاهي والمطاعم وتعطيل الأنشطة الرياضية والفنية ومنع كل التجمعات التي قد تؤدى إلى انتشار الوباء. كل تلك الإجراءات صحيحة وضرورية، واتخذتها كل الحكومات في العالم. لكنها أيضاً قررت استئناف العمل في المشروعات التي تنفذها شركات مقاولات خاصة، كما قررت استمرار التصوير في المسلسلات التلفزيونية الرمضانية، مع تقاعس الدولة في نقل رعاياها في الدول الأخرى، وإهمال حقوقهم الدستورية في العودة إلى الوطن.

قد يخيل للمرء أن الدولة المصرية تفعل الشيء ونقيضه، إلا أن الواقع يقول إنها تمضي في الطريق الصحيح الذي يصب في مصلحتها، طريق "الحفاظ على السلطة" من قبل الحاكم و"الاقتصاد" من طرف الحكومة.

يتطور العالم، ويميل إلى إظهار أهمية الدولة على حساب الفرد. فما شهده العالم في القرن الواحد والعشرين من تطور على مستوى السياسات والفلسفات يصب في مصلحة الدولة والحكومات وعجلة الاقتصاد في مقابل حقوق الفرد وأمنه المالي والاجتماعي، ويأتي على رأس تلك السياسات، النيوليبرالية، التي تعزز من رؤية الدولة للفرد كرقم وليس كإنسان.
نرى بعض الدول لا تخفي سراً إمكانية التضحية بمستقبل الملايين من سكانها في مقابل أن يبقى النظام السياسي على قيد الحياة. وخير دليل على ذلك اقتراض عديد الدول من البنك الدولي، وخضوعها لشروطه المجحفة.

ما يؤسف حقاً هو أن يسير الإنسان والدولة يسيران في نفس الاتجاه متوافقين على عدم أهمية الإنسان إلا كرقم.

يتساءل الشاعر أحمد مطر: "نموت كي يحيا الوطن.. يحيا لمن؟".

فأجيب: لرقم.

المصادر:
1. https://www.zamanalwsl.net/news/article/13402/ 

2. https://www.seuil.com/ouvrage/-il-faut-defendre-la-societe-michel-foucault/9782020231695

3. https://boringbooks.net/2020/06/kierkegaard-individual-v-crowd.html

4. https://boringbooks.net/2020/03/governmentality.html

5. https://bit.ly/2ZPefxY

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد إبراهيم
كاتب مصري
باحث في العلوم السياسية والعلاقات الدولية
تحميل المزيد