قد يبدو الحديث عن 18 بقرة شكلت تهديداً لأمن إسرائيل القومي نوعاً من الكوميديا، وفي أحسن الأحوال أقرب إلى قصة خيالية؛ لكنكم تعرفون الاحتلال، فهو أوهن من بيت العنكبوت، وهذه قصة حدثت بالفعل في فلسطين.
يستعيد فيلم "المطلوبون الـ18" (The Wanted 18) أحداثاً من الانتفاضة الفلسطينية الأولى، عندما تحدّت مزرعة أبقار فلسطينية الاحتلال الإسرائيلي، في مرحلةٍ اتخذت فيها المقاومة الشعبية أشكالاً مختلفة عن السائد.
تفاصيل فيلم "المطلوبون الـ18"
في قصةٍ واقعية تتخطى طرافتها حدود المنطق، قدّمها الفيلم الوثائقي على شكل قصةٍ، تناوبَ على سرد تفاصيلها شهود عيان وضباط إسرائيليون سابقون، فضلاً عن مشاهد واقعية من الانتفاضة الأولى؛ ضمن كلّ ذلك، تدور أحداث "المطلوبون الـ18".
الفيلم من إنتاج كندي فلسطيني فرنسي مشترك في عام 2014، وإخراج الفلسطيني عامر شوملي (في تجربته الإخراجية الأولى) بمشاركة الكندي بول كاون. وقد سبق أن عُرض في مهرجانات عدة، ونال جائزة لجنة التحكيم في مهرجان السينما الدولي ومنتدى حقوق الإنسان عام 2015، وجائزة أفضل وثائقي ضمن مهرجان أبوظبي 2014.
يسترجع فيلم "المطلوبون الـ18" زمن الانتفاضة الفلسطينية الأولى ما بين عامَي 1987 و1993، عندما اشتهرت "قصة مجنونة" -والعبارة منقولة من الفيلم عن لسان عامر شوملي- عن 18 بقرة وُلدت في مستعمرة إسرائيلية، وتمّ إحضارها إلى بيت ساحور.
أراد أهالي بيت ساحور أن يحققوا الاكتفاء الذاتي من منتجات الألبان، وعملوا على تأسيس تعاونية لإنتاج ما أُطلق عليه "حليب الانتفاضة"، وقد رافق ذلك قرار بمقاطعة جميع المنتجات الإسرائيلية.
اتسعت الحملة تباعاً لتشمل الاكتفاء الذاتي من المنتجات الزراعية أيضاً، كما رفض أهالي البلدة دفع الضرائب للمحتل الإسرائيلي، الذي جُنّ جنونه؛ ففرض حظر تجوّل، واعتقل عدداً كبيراً من الأهالي، خوفاً من امتداد أفكار بيت ساحور إلى بلدات فلسطينية أخرى.
السخرية والعبثية لمواجهة المحتل
لا يخلو فيلم "المطلوبون الـ18" من الطرافة، فيروي لنا كيف عبّر الأهالي عن تمرّدهم على الاحتلال حين فرض عليهم حظر التجوّل بحثاً عن البقرات، فحوّلوا جلسات السمر على الطريق إلى التواصل عبر شرفات المنازل؛ يتحدثون، ويضحكون، ويتبادلون الأخبار.
وفي بعض الأحيان، يتفننون في إغاظة المحتل عندما يشغلون أغنية لأم كلثوم في الوقت نفسه، أو حين يصمّم أحدهم دميةً لبقرة ويعلقها في سقف البيت، ما يثير استفزاز جندي الاحتلال.
وتتجلى خفة الدم الفلسطينية في المشاهد التي تصوّر البقرات، بتقنية الرسوم المتحركة، وتؤنسنها عبر إعطاء اسمٍ لكلّ بقرة. فتصوّرها في البداية وهي قادمة من المستعمرة الإسرائيلية مع أحكامٍ مُسبقة نمطية. في حوارٍ مع زميلتها، تقول إحدى البقرات إن الفلسطينيين كسالى ولا يجيدون سوى المظاهرات.
وفي تقنية الرسوم المتحركة نفسها، سنشاهد كيف صارت البقرات تشعر بالامتنان تجاه أهالي بيت ساحور، لأن الأهالي يدافعون عنها ويهرّبونها من مكانٍ إلى آخر حين تصبح "مطلوبة" بين ليلةٍ وضحاها.
وعلى مدى ساعةٍ و15 دقيقة، يصوّر لنا الفيلم الوثائقي كيف جُنّ جنون جيش الاحتلال الإسرائيلي، وصار يبحث عن البقرات في كلّ زاوية ومكان، وكيف يدور في كلّ حي من بيت ساحور ليضع الملصقات -التي تحمل صورة كل بقرة- على الجدران.
وقد وصل الأمر إلى استخدام مروحيات عسكرية لإيجادها، والعربات المصفحة التي تعلوها مكبرات الصوت، والتي كانت تمرّ في أحياء بيت ساحور وهي تهدّد قائلة: "يا أهالي بيت ساحور، سلّموا الأبقار تسلموا".
استخدم فيلم "المطلوبون الـ18" أسلوب السخرية والعبثية ليعبّر عن حالة الهستيريا الجماعية التي أصابت جنود الاحتلال وقتئذٍ، والتي وصلت إلى حدّ اعتبار هذه الأبقار "تهدّد أمن دولة إسرائيل"، كما جاء على لسان أحد الذين شاركوا في أحداث بيت ساحور.
يختتم الفيلم الوثائقي أحداثه بحدثين؛ الأول هو استشهاد ابن بيت ساحور، الشاب أنطون شوملي، برصاص الاحتلال خلال مشاركته في المظاهرة الشعبية الأخيرة بالبلدة، بعد توقيع اتفاقية أوسلو 1993، التي أنهت الانتفاضة والعصيان المدني.
ويصف مخرج الفيلم الفلسطيني عامر شوملي، وهو ابن عم المناضل الشاب الذي استشهد، كيف امتلأت كنيسة البلدة بالفلسطينيين الذين أتوا من كل مكان، ليتساءل بصوته: "هل كانوا يودعون الشهيد، أم ينعون الانتفاضة"؟
أما الحدث الثاني الذي يختتم أحداث فيلم "المطلوبون الـ18″، فهو عثور جيش الاحتلال على البقرات المطلوبة التي يأخذها للذبح إلى الجانب الإسرائيلي، حين تقول البقرات في حوارها الأخير إنه "تمت خيانتها من الإسرائيليين والفلسطينيين"، في إشارة إلى اتفاقية أوسلو.