يُمكن القول إن شكوكو هو المثال الأبرز على العامل الكادح الذي يجب الاحتفال به في عيد العمال. فمنذ صغره، كان الصبي يعمل صباحاً في ورشة النجارة مع والده، ويذهب في المساء إلى الأفراح ليغني ويرقص، ثم يعود إلى المنزل ليجد ما اعتاده من تأنيبٍ أو ضرب.
على مدى سنوات، استطاع شكوكو -واسمه الحقيقي محمود إبراهيم إسماعيل موسى- أن يخلق حالةً خاصة في عالم الغناء الشعبي لا يمكن مقارنتها بأخرى، سواء من عاصروها أو من جاءوا من بعدها.
احترف الغناء الشعبي والمونولوجات في الموالد والأفراح، قبل أن يصبح أشهر مونولوجست في مصر والعالم العربي، وأحد أهم العناصر السينمائية التي أضافت إلى الأفلام نكهة مميزة بخفة ظلّها.
فمن هو محمود شكوكو؟
وُلد محمود إبراهيم إسماعيل موسى في الأول من مايو/أيار 1912 بمنطقة الدرب الأحمر في القاهرة، لعائلة متوسطة الحال. أَطلق عليه جدّه اسم "شكوكو"، فأصبح اسمه محمود شكوكو ولازمه حتى وفاته، ويُقال إنه سجّل اسمه بهذا الشكل على الهوية بشكلٍ رسمي.
كان والد شكوكو يملك ورشة نجارة، ولم يهتم بتعليم ابنه القراءة والكتابة، فلم يُدخله المدرسة. لكنه بالمقابل أصرّ على تعليم ابنه حرفة النجارة، ليقف معه في الورشة ويساعده ويمتلك صنعة تضمن له حياةً كريمة من بعده.
تعلم الطفل الصنعة بشكلٍ مُبهر حتى أصبح "أسطى" فيها، واستطاع أن يحصد أرباحاً كبيرة. تحدث شكوكو عن تلك المرحلة في مقابلةٍ مع سمير صبري، وأعلن أنه كان يكسب من عمله في الورشة نحو 25 قرشاً في اليوم "وقتها كان مبلغاً كبيراً".
برع شكوكو في النجارة وكان متخصّصاً في كلّ أشكالها، من أبواب ونوافذ وموبيليا وغيرها، ولكن اهتمامه بالفن كان واضحاً. فقد كان يستمع إلى أم كلثوم وعبد الوهاب طوال الوقت، ويغني خلال عمله في الورشة.
اجتهد فيما بعد في تعليم نفسه القراءة والكتابة، وبعض الكلمات الإنجليزية والفرنسية، لاستخدامها في التعامل مع الناس إذا لزم الأمر. وقد استغل ذلك في المونولوجات لاحقاً واللعب على فكرة "الفرانكو آراب"، مثل أغنية "اشوف وشك تومورو"، أو أغنية "كام هير مونامور".
لم تكن رغبة والده المُبكرة لتثنيه عن حلمه الفني، ولم يكن حلمه الفني ليثنيه عن رغبة والده في الحفاظ على مهنة أجداده، فقد ظلّ يعمل في تجارة الموبيليا إلى أن اقترن اسمه الفني باسمه التجاري.
ومثلما صارت الجماهير تطالب بالفنان محمود شكوكو لإحياء حفلاتها، بقيت زبائن الورشة تطالب بالعامل شكوكو ذي السمعة الطيبة لتأثيث منازلها.
الاستقلال عن والده والانطلاق في الفن
كانت لحظة فارقة في مراهقته عندما استمع إلى المغنية زينب المنصورية خلال أحد الأفراح في الدرب الأحمر، فوقع في غرامها وغرام فرق الأفراح الشعبية في ذلك الوقت، وبدأ في الخروج ليلاً لحضورها واكتشاف تلك المساحة الجديدة بالنسبة إليه.
في الجزء الأول من الأجزاء الثلاثة التي خصّصها عن محمود شكوكو، يروي بلال فضل في برنامجه "الموهوبون في الأرض" كيف كان ذلك السهر سبباً في خلافاتٍ كثيرة مع والده، الذي ضربه مراراً بسبب تقصيره في عمله بالورشة.
ورغم ذلك، لم يستطع شكوكو منع نفسه من حب الغناء وشغفه بعالم الفن، خاصة أنه كان يكسب جيداً من النجارة نهاراً ويمكنه المغامرة في الليل. فبدأ بالغناء في الأفراح بشكلٍ غير محترف، وبدون مقابل، وأحياناً يشترك مع فرق منطقته الغنائية والمناطق المجاورة.
وحين ذاع صيته وعرف والده، طرده من البيت والعمل في الورشة، وما حصل أن شكوكو لم يستسلم بل قرر أن يبدأ حياةً جديدة. ففتح ورشة منفرداً، وكان يعمل فيها نهاراً، وواصل الغناء ليلاً.
في تلك الفترة، شارك مع فرق الأفراح في غناء مونولوجات لفنانين مشهورين؛ مثل سيد سليمان، كما كان يرقص بالشمعدان مع الراقصات في مقدمة الفرقة، من دون أن يتخلى عن النجارة.
النقلة الاحترافية الأهم في مسيرته كانت حين بدأ العمل مع فرقة علي الكسار، بعدما استمعت إلى صوته واحدة من أعضاء الفرقة عندما كان محمود شكوكو يصنع لها غرفة نوم. فأُعجب به علي الكسار وضمّه إلى فرقته، لتبدأ مرحلة جديدة من النجاح والعمل والانتشار وسط عالم الفرق المسرحية.
ومن فرقة الكسار، انتقل إلى أخرى، وتنقل بعدها بين فرق مختلفة، فكان يغني المونولوجات في الفواصل إلى جانب الغناء في الأفراح والسهرات الغنائية.
لكن الانتشار الأكبر بدأ حين قدّم له أحمد المسيري كلمات وألحان مونولوج "ورد عليك"، الذي حقق نجاحاً كبيراً في مصر كلها مطلع الأربعينيات. ومنذ تلك اللحظة، أدرك شكوكو أهمية غنائه لمونولوجات خاصة به، بكلماتٍ تناسب شخصيته الفنية.
فبدأ يبحث عن كُتّاب وملحنين، وبالتزامن عمل على رسم شخصية فنية خاصة، وقرر الاعتماد على الطاقية والجلباب الفلاحي في حفلاته، وكان يدخل المسرح ممسكاً بعددٍ كبير من الورود التي يرميها على الحضور وهو يغني "ورد عليك فلّ عليك يا مجنني بسحر عنيك"، ثم أضاف إلى ذلك كلّه العصا وربطة الوسط مثل الراقصات.
بين الإذاعة والسينما والمسرح.. نجاحٌ لا مثيل له
استطاع شكوكو منذ تلك اللحظة أن يمهّد للأرض الصلبة التي سيقف عليها طوال حياته، من خلال شخصية فنية تجمع بين الغناء الشعبي والمونولوج والموال الفكاهي. وأولى الخطوات كانت حين أسّس فرقة استعراضية خاصة مع سعاد مكاوي وثريا حلمي على مسرح الأزبكية، وغيره من المسارح؛ حيث قدّم عروضاً استعراضية كاملة.
ومع الانتشار الفني الكبير، استمع له مدير الإذاعة المصرية وقتئذٍ محمد فتحي، خلال إحدى حفلات عيد الميلاد، فتمّ اعتماده مونولوجست في الإذاعة المصرية، ليحقق بذلك شهرةً أوسع ويخترق عالم السينما.
في السينما، أُعطيت له أدوارٌ بسيطة من خلال المخرج نيازي مصطفى، قبل أن تُفرد له مساحات أكبر مع المخرج عباس حلمي، فبدأ في تقديم دويتو مع إسماعيل يس وسعاد مكاوي، إلى جانب الظهور مع سامية جمال وتحية كاريوكا ومحمد فوزي، وصولاً إلى تقديم أفلام من بطولته؛ مثل "عنتر ولبلب".
انطلق شكوكو وبدا وكأنه تميمة الحظ والنجاح لأفلامٍ كثيرة. ومع نهاية الحرب العالمية الثانية، أصبح رقماً صعباً في السينما، فكان يشارك بأفلامٍ كثيرة في السنة الواحدة خلال فترة الازدهار التي عرفها الإنتاج السينمائي.
أصبح محمود شكوكو واحداً من أشهر الفنانين في مصر، من حيث المكانة والنجاح في الأفلام والحفلات والمونولوجات. بدأ يتعاون مع مجموعة من أشهر شعراء العصر، كان على رأسهم فتحي قورة، الذي شكل معه ثنائياً ناجحاً، كما قدّم العديد من المونولوجات مع محمود الشريف ومنير مراد وغيرهما من الملحنين.
ضمن إحدى السهرات التلفزيونية، يروي الناقد الفني حسن إمام عمر كيف كان شكوكو مهتماً دائماً بالتجديد وتقديم تعاونات فنية جديدة، وكيف طلب منه شخصياً التوسّط له عند بيرم التونسي وزكريا أحمد للتعاون معهما.
ويُشير عمر إلى أن محمد عبد الوهاب كان معجباً كثيراً بما يقدّمه شكوكو وبصوته، فأشركه في استعراضات فيلم "قلبي دليلي" إلى جانب إسماعيل يس، ولحّن فقرتهما، كما لحّن له مونولوج بعنوان "يا جارحة قلبي بإزازة"، لكنه لم يصل إلينا.
أعاد شكوكو إحياء فكرة "الأراجوز"، بعد أن تعلّم طريقة تحريكه والتحدث وفي فمه الصفارة التي تغير صوته إلى صوت الأراجوز. قدّمه في الحفلات وغنى به، وكان الجمهور يحبه أيضاً.
في إحدى حفلاته بلندن، طالب الجمهور بالأراجوز الذي لم يُحضره معه من مصر. فقرر في اليوم التالي شراء كل ما يلزمه من أدوات، وصنعه بنفسه ثم قدّمه في الليلة نفسها على المسرح.
اهتم أيضاً بفن العرائس، وفي مرحلة ما حوّل نشاطه من الفن الاستعراضي إلى فن العرائس، لا سيما وأنه كان قادراً على صناعة العرائس الخشبية بنفسه. فقدّم مسرحيات عدة في هذا الإطار؛ مثل: "السندباد البلدي"، و"الكونت دي مونت شكوكو"، وكلاهما من تلحين محمود الشريف وسيد مكاوي وإخراج صلاح السقا.
دور ثورة يونيو 1952 في الانتشار وتوقف نشاطه
كان لثورة يونيو 1952 دورٌ بارز في انتشار المونولوجات وازدهار نجومية شكوكو وغيره من المونولوجسيتات، خاصةً أن السخرية الموجودة في المونولوج كانت توصل أي رسالة بأسلوبٍ بسيطة ومباشر.
وقد قدّم شوكو أغاني كثيرة للثورة؛ مثل "نفديك بالروح والمال يا جمال" بعد حادثة المنشية، وأغنية "إلحق إلحق أخبار جامد" في عيد الثورة، وهي أقرب إلى شرح للثورة وأهدافها في شكل مونولوج.
أصبح شكوكو واحداً من أهم المشاركين في حفلات الثورة، وقد ساعد ذلك في شهرته ونجاحه واستمراريته، رغم أن السلطة السياسية عادت ولعبت دوراً أساسياً في مراقبة فن المونولوج؛ ما أدى إلى تراجعه تدريجياً ثم اختفائه.
استمرّ توهّج محمود شكوكو حتى أواخر العام 1963 حين توقف نشاطه الفني، وفي العام 1985 غادرنا بعد معاناةٍ مع مرض السرطان، تاركاً وراءه إرثاً فنياً كبيراً، رغم أن عدداً كبيراً من أغنياته تُعتبر غائبة عن الوجدان الشعبي.
فالكثير من أفلامه طواها النسيان، ما عدا قلة قليلة يُعاد عرضها مراراً وتكراراً. ولحسن الحظ أن أغنيات كثيرة أنقذها الإنترنت، الذي سمح للأجيال الجديدة باكتشاف أعماله، لعلّ آخرها أغنية "الهاشا باشا تك" في مسلسل "أفراح القبة"، وأغنية "حلو الحلو" التي أعادت مريم صالح تقديمها في مسلسل "فرح ليلى".
لكن كل من يسمع هذه الأغنيات سيكتشف كم كان شكوكو يتمتع بأصالة مدهشة، رغم أن عدداً من النقاد والفنانين كانوا يتعاملون مع ما يقدّمه باستخفاف، ويعتبرونه لا يرتقي إلى مستواهم الفني. لكن الحقيقة أن شكوكو كان الفنان الوحيد في مصر الذي صَنع له النحاتون تماثيل من الصلصال، أو من الحلوى في المولد، فكان يُقبل عليها المعجبون -كباراً وصغاراً- ونظراً لأدائه وإطلالته المميزة، أطلق عليه النقاد لقب "شارلي شابلن العرب".