مؤخراً، كلما أسمع أغنية جميلة، أتساءل، أهي لـ "عزيز الشافعي"؟ معظم المرات يكون ظنّي في محله، واكتشفت أنه يكتب الشعر أيضاً، ويغني، وأتساءل مرةً أخرى، هل هناك حد لمواهب عزيز الشافعي.
آخر أغنية أثارت فضولي، قديمة، سمعتها صدفة، مرتين خلال نفس الأسبوع، وتكهّنت عند سماعي للمقطع الأول منها بأن المغني المجهول سيقول في المقطع الثاني "بلاش الملامة"، وفعلاً صدق حدسي، وضحكت.
حينها فوراً بدأت بالبحث على "جوجل" عن مغني، وملحن، وشاعر هذه الأغنية الجميلة، فوجدت أنها للمغني "خالد سليم"، الذي تذكرته؛ لأنه الوحيد الذي كان يملك جسماً رياضياً ممشوقاً بين المغنيين، ولكن المفاجأة الكبرى كانت عند اكتشافي أنها من ألحان وشعر "عزيز الشافعي".
أدين بالفضل لإحدى صديقاتي السابقات، في لفت انتباهي لأعمال عزيز الشافعي الجديدة، فقد كانت تُصرّ دائماً على أن تسمعني أغنية لمغنٍ مجهول، على الأقل بالنسبة لي، اسمها "حياتي مش تمام"، وفي كل مرة كانت تسألني نفس السؤال: هل أعجبتك الأغنية؟ فأجيبها "نعم"، ولكن في إحدى المرات سألتها عن ملحن الأغنية، فأجابتني إنه ملحن جديد اسمه عزيز الشافعي، بعد ذلك تكرر هذا الاسم كثيراً عند متابعتي للبرامج الفنية وعند سماعي للأغاني القوية خلال الثلاث سنين الأخيرة.
لا شك أن عزيز الشافعي يملك موهبة عظيمة، ويذكّرني كثيراً بالعبقري "بليغ حمدي" لغزارة انتاجه، فعند قراءتي لسيرته الذاتية وجدت أنه لحَّن في بداية الألفينات لمعظم المغنيين والمغنيات أمثال نوال الزغبي وهيفاء وهبي وتامر حسني وهشام عباس ومحمد فؤاد وإيهاب توفيق وكثيرين غيرهم، لكن المثير للانتباه أن موهبته احتاجت لفترةٍ طويلة لكي تُصقل مقارنةً ببليغ حمدي الذي لحّن لأم كلثوم رائعتهما "حب إيه" وعمره لم يكن يتجاوز الثلاثين سنة.
أظن أن السبب الحقيقي لعدم تفجّر موهبة عزيز الشافعي على الملأ في وقت مبكر، لأنه كان يشك في امتلاكه لكل هذه المواهب الفنية.
بدايات عزيز الشافعي
فقد أوضح عزيز الشافعي في أحد اللقاءات التلفزيونية، أنه كان يكتب الشعر ويلحن ويغني خلال دراسته الجامعية في كلية الهندسة، وبعد تخرجه التحق بشركة هندسية لصيانة الأجهزة الكهربائية، وكان الشاعر المعروف "عوض بدوي" يزور الشركة كثيراً لتصليح جهاز "الرد الآلي" الخاص بهاتفه، فشجعه زملاؤه في العمل على أن يُسمع الشاعر أغنيته الجميلة التي لحنها؛ ليعطيه رأيه فيها.
لقد تردد الشافعي كثيراً، فهو كما قال عن نفسه، ليس من عادته أن يقوم بالمبادرة كغيره من الموسيقيين، لعرض أعماله على أحد، وهذا سبب آخر لتأخر تعاونه مع بعض الأسماء الكبيرة من المغنين والمغنيات لما يقارب العشرين سنة.
لكن عزيز الشافعي قرر في النهاية ألا يتردد أكثر ويقوم بتلك الخطوة المهمة، فعرض على عوض بدوي أن يقوم بتسليمه جهاز الهاتف بعد تصليحه في مكان عمله إذا كان مشغولاً، وعندما التقى به طلب منه الاستماع لأغنية قام أحد أصدقائه بكتابة شعرها وتلحينها، فتجاوب معه الشاعر وجلس ينصت للأغنية، ثم فجأة تنهد بصوتٍ عال، فقفز عزيز الشافعي من مكانه قائلاً: ألم تعجبك الأغنية؟ فأجابه: بالعكس الأغنية جميلة جداً، وبعدها تشجّع الشافعي، وأخبره بأنه كاتب وملحن الأغنية الحقيقي، فبادره عوض بدوي بالسؤال قائلاً: أنت بتعمل إيه في الشركة اللي أنت قاعد فيها؟ وكانت هذه نقطة البداية الحقيقية لرحلة الشافعي في عالم الموسيقى.
عزيز الشافعي VS بليغ حمدي
واضح جداً أن عزيز الشافعي ملحن يمتاز بالذكاء الفطري، فعندما قام بتلحين أغنية "سلملي" للمطرب صابر الرباعي، وأنا أصرّ هنا على كلمة "مطرب" لتميزه عن غيره لقدراته الصوتية العالية، قام الشافعي بكتابة جمل موسيقية شعبية جميلة؛ مستغلاً إمكانيات صوت الرباعي، ودمجها بألحان شبابية حديثة، ولكن للأسف لم تنتشر كالأغاني التي لحنها لـ"روبي وعمرو دياب وبهاء سلطان ومحمد حماقي".
أظن سبب ذلك أن عزيز الشافعي لم يضف للأغنية المنعطف الذي من بعده تنتقل الأغنية من الألحان الجميلة التي تبتدئ بها، إلى اللحن الذي يرفعها إلى مستويات عجيبة من الشجن والشغف، وما من ملحن عربي أتقن تلك اللعبة مثل بليغ حمدي، فسر ألحانه أنه كان يشوق المستمعين خلال انتظارهم لتلك المنعطفات المرهقة والممتعة بنفس الوقت.
لكني متأكدة أن عزيز الشافعي باستطاعته أن يقوم بتشويق المستمعين، وأظن أن ألحانه الحالية ما هي إلا تجارب جميلة تمهد لقدوم الروائع اللحنية المستقبلية، بشرط أن يركز على الأصوات التي تستحق تلك الألحان، ولا يشغل نفسه ولا يبعثر طاقاته على أرباع وأثلاث وأنصاف المغنيات والمغنين، الذين يملأون حالياً الساحة الفنية العربية.
إذا عرف عزيز الشافعي كيف يوازن بين طرفي معادلة النجاح، أي الشِّق التجاري وشِق التميز، فإنه سيهتدي إلى الطريق التي ستؤدي بفنه إلى الخلود. هناك عدة مدارس موسيقية عريقة، ولكن منهجياتها متفاوتة، فمثلاً الموسيقار "رياض السنباطي" التزام بالتلحين لأم كلثوم "فقط" في أوج عطائه.
أما الموسيقار محمد عبدالوهاب، فكان ينتقي المواهب منذ صغرها، ويتبنى فقط التي تكون مطابقة لمقاييسه الخاصة، ويجزل العطاء بتخصيص أجمل الألحان لها، كما فعل مع نجاة الصغيرة وعبد الحليم حافظ وفايزة أحمد، أما شادية فلم يلحن لها إلا أغنية واحدة.
بليغ حمدي كان كريماً ومعطاء، ولم يبخل على أحد في عالم الغناء، ولكني أظن لو أنه لم يضيع وقته الثمين بالتلحين لكل من هبَّ ودبَّ، وقام بالتركيز على عمالقة الطرب في الستينيات والسبعينيات، لأتحفنا بروائع عديدة إضافية لأم كلثوم وعبد الحليم قبل وفاتهما، ولما احتاجت أم كلثوم لأن ترسل سائقها للبحث عنه، ولما احتاج عبدالحليم للحاق به إلى بيروت بعد أن كان يختفي فجأة بمنتصف مرحلة الإعداد للأغنية. فريد الأطرش كان يختلف عنهم جميعاً فقد اكتفى بأن يخصص لنفسه معظم ألحانه بعد وفاة أسمهان المفاجئ.
عزيز الشافعي ودوره المستقبلي
إذا كان ظني في محله، وتقديراتي دقيقة، فإن على عزيز الشافعي خلال هذه المرحلة أن يبحث عن مواهب صوتية جديدة ويتبناها، مثلما فعل بليغ حمدي مع عفاف راضي وميادة وعزيزة جلال والعديدين غيرهن، واختيار الأفضل منهم كما فعل محمد عبد الوهاب.
علي عزيز الشافعي أيضاً أن يبدأ من حيث انتهى بليغ حمدي في مشروعه لتجديد التراث الشعبي ونشره، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بالعيش والتعايش مع الموسيقى الشعبية بقديمها وجديدها، كما فعل بليغ حمدي في الستينيات خلال جولاته في مدن مصر وأريافها.
كما عليه أن يكون ملماً بالموسيقى العالمية كما كان فريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب، ولكني أفضل أن يتبع الطريقة السلسة لفريد الأطرش في دمج تأثيرات الموسيقى الغربية عليه في ألحانه الشرقية الأصيلة، عوضاً عن منهجية محمد عبد الوهاب في دمج القوالب الموسيقية الغربية الأصلية في ألحانه دون أي تغيير، حتى في بعض الألحان التي قدمها لأم كلثوم.
ما قلته سابقاً، لا يقلل من شأن الإنجازات الفنية التي حققها الشافعي حتى الآن، وعبقريته واضحة كوضوح الشمس، أقولها بصراحة، فأنا لا أستطيع أن أقاوم المتعة عند سماعي للجمل الموسيقية الساحرة التي ألفها الشافعي في أغنية "قدام مرايتها" لعمرو دياب، وأتخيل مع أن معانيها خفيفة الظل وناعمة، فإن عمرو دياب انجرف، مستمتعاً، إلى خيالاته عند غنائه لها، ولكنه كان يصحو عند سماعه للحن الشجي الذي يحتضن تلك الكلمات.
تذكرني أغنية "قدام مرايتها" نسبياً برائعة أم كلثوم "الحب كله"، فقد استطاع بليغ حمدي في الأخيرة خلق حالة نادرة من الشجن في تلحينه لشعر أحمد شفيق كامل، وخاصة في هذه الأبيات التي تعبّر بكلمات عامية بسيطة عن معانٍ عميقة:
طريق حياتي مشيته قبلك في ليل طويل.. لا قلب جمبي يحس بيا ولا طيف جميل
ولما شفتك أول ما شفتك… بكل شوق الدنيا لقيتني مشدود إليك
وفي كل حب الدنيا أنا جيتك وجريت عليك
الهوى العطشان عطشان في قلبي بينده لك…..يا أرق من النسمة وأجمل من ملاك
أنت روحي وكل عمري ونور حياتي….يا حياتي إيه أنا بالنسبه لك؟
حبيبي ده أنا مخلوق علشانك يا دوب علشانك…علشانك أنت
وقلبي قلبي عاش على لمس حنانك يا دوب حنانك.. حنانك أنت
أنا أريد من عزيز الشافعي أن ينجرف أكثر ويغرق في بحور الشجن والشغف البليغية، فهو ندٌ لها، أريده أن يتحدى نفسه ويخرج من القوقعة التي ضاع فيها الموسيقيون العرب، وبالتالي أضاعوا هوية الموسيقى العربية وأصالتها ما بعد انتهاء عصر الغناء الذهبي العربي في نهاية السبعينيات. أريده أن يبتعد عن موسيقى "الأصنصيرات" الغربية والروك والفلامنكو، وأن يغوص في بحور الألحان الشرقية العربية الجميلة، ولا ضرر في تحديثها عن طريق تهجينها ببعض مؤثرات الموسيقى الغربية، ولكن بالاقتداء بفريد الأطرش ورياض السنباطي.
أنا لا أدعو هنا عزيز الشافعي، لأن يكون نسخةً عن بليغ حمدي، بل أفَّضل أن يكون أداؤه منفردا ومنهجيته مبدعة لتصبح شخصيته الفنية متميزة، وهي كذلك، والشواهد كثيرة، فمثلاً يختلف عزيز الشافعي عن بليغ حمدي بانه بدأ مبكراً بكتابة الشعر للأغاني التي يلحنها، أما بليغ فظهرت موهبته بكتابة الشعر عند تلحينه للمطربة ميادة الحناوي أغنية "الحب اللي كان" بعد انفصاله عن زوجته وردة عام 1979، ثم استمر في كتابة الشعر حتى وفاته عام 1993، وكان من أشهر الأغاني التي قام بكتابة كلماتها وتلحينها، أنا بعشقك و بودعك.
أغنيتي المفضلة لعام 2022، قام بغنائها المطرب بهاء سلطان، تفوق عزيز الشافعي على غيره، وحتى على نفسه، عندما كتب ولحَّن هذه الأغنية العاطفية الجميلة، وأظن أنه يشاطرني الإعجاب بها، فقد نشر مقطع من "أنا غلطان" عبر حسابه الشخصي على موقع "تويتر"، عندما قامت شركة الإنتاج بطرحها في منتصف يناير/كانون الثاني 2022، معلقًا: أكتر أغنية كنت مستنيها تنزل مع بهاء سلطان، ويا رب تعجبكم زي ما بحبها. تقول كلماتها "أنا الغلطان"
أظن أن هذه الأغنية ستكون نقطة التحول في المسيرة الفنية للشافعي، فأنا لا أمل من سماعها، وأكتشف فيها أشياء جديدة كل مرة، فقد نجح بإظهار الطبقة الصوتية المثالية لبهاء سلطان، كما فعل الموسيقار رياض السنباطي مع صوت ميادة الحناوي في أغنية "أشواق"، وانسابت جُمل عزيز اللحنية بانسجام مع صوت بهاء.
أما كلمات الأغنية فستجدد جراح كثير من ضحايا قصص الحب عند سماعهم لها. المشكلة أن ألحان الشافعي للأغاني العاطفية قليلة ومتأثرة بالمدرسة الغربية، كما حدث عندما لحن أغنية عمرو دياب الجديدة "باطَّمن عليك"، ففيها شجن مصري وتظهر جمال صوت عمرو دياب في الطبقات العليا، ولكن هناك نغمة تتردد وواضح تأثير الموسيقى الفرنسية والإسبانية عليها، ولكن بطريقة جميلة، ولا أظن أنها مقتبسة.
أتمنى من كل قلبي أن يُكثر من الألحان العاطفية الشرقية في المستقبل القريب، وأن يجرب التلحين لأمثال فضل شاكر ونداء شرارة وجوزيف عطية، وقد ذكرت هذه الأسماء في مقالة أخرى، وأضيف على القائمة اسم المغني اللبناني "آدم"، فعند سماعي لأغنيته "خلص الدمع" تفاجأت بأن خامة صوته قوية وشجية، ولكن للأسف غير مستغلة جيداً.
قام عبد الحليم حافظ في حفل "شم النسيم" عام 1973، بتقديم صديق عمره ومسيرته الفنية "بليغ حمدي"، وقبل غنائه رائعتهما "حاول تفتكرني"، قائلاً: أمل مصر فى الموسيقى…بليغ حمدي، وأنا أقول: استعدوا جميعاً…فروائع أمل العرب في الموسيقى… عزيز الشافعي… قادمة لا محالة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.