“المنافسة الوحيدة لأم كلثوم”.. ما لا تعرفه عن الفنانة “آمال الأطرش”

عربي بوست
تم النشر: 2023/04/25 الساعة 13:47 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/04/25 الساعة 13:47 بتوقيت غرينتش

استعرت من الشاعر الكبير "نزار قباني" بعض الكلمات، وكتبت: أسمهان… يا وجع الأغنية العربية. 

ستتساءلون عن سبب كتابتي لتلك الكلمات، أقولها بصراحة، عند سماعي لأغاني أسمهان، أشعر بالإرهاق الشديد، ولكني أستمتع بالاستنزاف العاطفي الذي أعانيه عند سماعي لصوتها الخارق الذي يبعث الرهبة في القلوب.

أعطيكم مثالاً، أغنية "يا بدع الورد" والتي قامت بغنائها في فيلم "انتصار الشباب" عام 1941، وقام بكتابة الكلمات الشاعر حلمي الحكيم، أما اللحن فكان لأخيها فريد الأطرش. تبدأ بوصف مزايا الورد وتستهل بالورد الأحمر، ولكن لا يبدأ صوتها بالارتقاء للطبقات العليا إلا عند وصفها للورد الأصفر، عندما تقول: والأصفر من ريحته …غيرة وآلام، يستمر صوتها بالصعود عندما تصل لكلمة "آلام" لخمس ثوانٍ متتالية، ثم لثماني ثوانٍ أخرى ولكن تدريجياً، وعندما تقول: والأبيض ده العفة ريحة وغرام، بعدها تتوقف لبُرهة، ثم ينطلق صوتها صعوداً وهي تغني: رسول العشاق سمير المشتاق، وتصل لذروة حادة من القوة والجمال.

هذه الأغنية بسيطة في شعرها، ولكن عظيمة في لحنها، ودليل آخر على الموهبة النادرة التي كان فريد الأطرش يمتلكها ويستغلها عند كتابته الموسيقى لأسمهان، فكان يستعرض القوى الكامنة في أوتارها حتى ولو كانت جمله اللحنية قصيرة وسهلة، وبرهن بذلك على عمق معرفته لإمكانيات أخته الصوتية. 

أنا لا ألوم فريد الأطرش عندما تحسّر على فراقها الأليم في إحدى المقابلات بعد رحيلها المفاجئ: هي درّة وألماسة وضاعت منّا، الصوت الجميل، النبرات القوية، الإحساس الرقيق، الحلاوة، الحنجرة الصافية البراقة، لو معايا أسمهان كنّا عملنا حاجات خطيرة.

سنحت لي الفرصة لأول مرة للتعرف على أسمهان من خلال مشاهدتي لفيلم "غرام وانتقام" في أوائل السبعينات وعمري لا يتجاوز العشر سنين. شرح لي والدي خلال مشاهدتنا للفيلم بأنها توفيت قبل إكمال الفيلم بعد سقوط سيارتها في "ترعة الساحل" أثناء رحلتها لقضاء إجازة نهاية الأسبوع في مدينة "رأس البر" شمالي مصر، لتلقى مصرعها في الحال.

لقد شعرت بالحزن الشديد، وتساءلت: كيف لوجه فتّيٍ جميل كوجه أسمهان أن يختفي للأبد وبهذه السرعة؟ لكني مع تسارع أحداث الفيلم وأغانيه الجميلة، خصوصاً أغنية "ليالي الأنس في فيينا"، نسيت نهايتها المأساوية، وصرت أتساءل مع نفسي: كيف لهذا الصوت الجبار أن يخرج من مخلوق رقيق وهَّش كأسمهان ومن دون أي عناء؟ 

هل تصدقون أن انخراط أسمهان في دنيا الطرب والتمثيل بدأ في عام 1932 وانتهى عام 1944، وأمضت أربع سنين منها في جبل الدروز، عندما انتقلت هناك مع زوجها الأمير حسن الأطرش، ورُزقت منه بابنتها الوحيدة "كاميليا"، وانقطعت كلياً عن الغناء خلال تلك الفترة الزمنية، أي أن العمر الفني الحقيقي لأسمهان لم يتعدَّ الثماني سنين.

أسمهان وفريد الأطرش كما ظهرا علي غلاف مجلة الراديو المصري (ملكية عامة)

الغريب أنها خلال تلك الفترة القصيرة من عمرها ارتقت بفنها إلى مستويات عالية هددت فيها بقوة عرش كوكب الشرق "أم كلثوم"، وكما قلت في مقالٍ سابق، لو أطال الله بعمرها، لشهدنا منافسة شديدة بين طفرتين غنائيتين نادرتين، ولكان الغناء العربي قد شمخ إلى مراتب عليا أسطورية من الجمال والإبداع.

كان الجميع متيقناً أن أسمهان تملك صوتاً استثنائياً، ولكنها عانت حتى مماتها من العقبة الوحيدة أمام احترافها الفن؛ رفض أخيها "فؤاد الأطرش" لذلك، وإصراره على إرجاعها لكنف عائلتها في جبل الدروز في سوريا.

كانت الحياة الشخصية لأسمهان لا تخلو من بعض الجموح والطيش، عكس أم كلثوم التي استطاعت، تقريباً، فصل حياتها الشخصية عن الفنية، لا يجب أن ننسى أن عمر أسمهان القصير حرمها من أمور كثيرة، ومن ضمنها التدرج بعيش مراحل حياتها المختلفة والذي كان قد أدى إلى النضج والاستقرار والاستقلالية. 

عانت من شعور متواصل ومؤرق بأن حياتها ستنتهي سريعاً؛ لذلك لا نستطيع لومها على تمردها وانجرافها نحو المجهول. كانت غريبة الأطوار ومتقلبة، لا تعطي مجالاً لمن وقع في غرامها بالراحة أو حتى التقاط الأنفاس، فقد كان عشاقها تحت التهديد المستمر بأن يتعرضوا للنبذ والهجران، وهذا السلوك كان يغذي روح التملك والاستحواذ لديهم، والذي بالتالي يزيد من شوقها للهروب الى مغامرةٍ عاطفية جديدة، أي أنها كانت تعيش في حلقة غرامية مفرغة ومدمرة. 

أكثر علاقات أسمهان غموضاً وغرابةً كانت مع الصحفي "محمد التابعي" مؤسس مجلة "آخر ساعة" المصرية، وكان يلقب بأمير الصحافة. كان يكبرها سناً وبالتالي كان أكثر منها نضجاً وحكمةً، وحاول مراراً التدخل في أمور حياتها المتقلبة، وعبر لها عن امتعاضه من وضعها، ولكنها كانت تجيبه:

" يحسن بك نسيان كل شيء، ولنا الساعة التي نحن فيها"

قد صرَّح التابعي في كتابه "أسمهان تروي قصتها" والذي تم نشره  بعد وفاتها في مجلة آخر ساعة:

بأن "اللامبالاة كانت فلسفتها في الحياة، فهي حريصة على حريتها في أن تفعل ما تشاء، وتسافر متى تشاء، وتلقى من تشاء. (حسب رأيه) إن هذا كان ينافي أركان الزواج الناجح والذي يرتكز (بنظره) على طاعة الزوجة لزوجها الذي له كافة الحقوق، (وبنظره أيضاً) أنه الشرط الذي يضمن الاستقرار".

الصحفي "محمد التابعي"

أما هي، كما يقول "حسين التابعي"، فقد كانت ترى أن فروض الزواج الشرقي تتعارض مع حريتها، فتتململ وتتبَّرم وتضيق ذرعاً به.

كما تساءل التابعي: هل ستظل هذه المسكينة شقية أبداً بهذه الحُمَّى، حُمَّى القلق والتبديل والتغيير وعدم الاستقرار؟! كانت تحنو للزواج، لكن قيوده تضَّيق عليها صدرها. سأخدع نفسي إذا آمنت يوماً بأن وجودي بجانبها أو نصائحي كانت تثمر معها، كلا، لا شيء من هذا، فقد كانت الحُمَّى قد ركبتها تماماً، لا تبالي بأحد ولا تصغي لأحد، وكل مُناها أن تروي ظمأها للحياة وأن تفعل كل ما تشتهي وكل ما تريد.

أضاف التابعي في شهادته عن أسمهان: كانت جذابة فيها أنوثة، لكنها لم تكن جميلة بحكم مقاييس الجمال، وجهها المستطيل وأنفها الذي كان مرهفاً أكثر بقليل مما يجب، وطويلاً أكثر بقليل مما يجب، وفمها كان أوسع بقليل مما يجب، وذقنها الثائر أو البارز إلى الأمام أكثر بقليل مما يجب، لكن عينيها، كانتا كل شيء، في عينيها كان السر والسحر والعجب، لونهما أخضر داكن مشوب بزرقة وتحميهما أهداب طويلة تكاد من فرط طولها أن تشتبك، وكانت أسمهان تعرف كيف تستعمل سحر عينيها عند اللزوم.

أنا شخصياً لم أصدم برأي التابعي، كما حصل مع الكثيرين، بالعكس أنا أشاركه الرأي بأن العينين هما أكثر أجزاء الوجه بل الجسد كله تأثيراً ولهما في كياننا وأعماقنا سطوة كبرى. ليس شرطاً أن يكونا ملونين أو كبيرين، السر يكمن في إشعاعهما الذي يحيّر الناظرين ولو كانوا من ذوي الفطنة، فيظنون أن أسئلة الوجود والعشق المحظورة تتلألأ أجوبتها على وجوه أصحاب العيون المضيئة، وتكون المفاجأة عند اكتشافهم ولو بعد حين، أن أكثريتهم يتصفون بالأنانية والسطحية والجحود؛ لذا لا يدوم السحر طويلاً، وتنكشف النوايا الحقيقية، وينقلب السحر على الساحر. 

لنرجع إلى أغنية رائعة أخرى لأسمهان، اسمها "يا طيور"، والتي قامت بغنائها في عام 1940، من ألحان الموسيقار "محمد القصبجي"، ويُروى أنه استلهم ذلك اللحن البديع بعد أن استمع إلى مقطوعة موسيقية بعنوان "أصوات الربيع" التي قامت بأدائها مغنية السوبرانو الألمانية المشهورة آنذاك، "إيرنا ويبر ساك".

قد قام الكثير من النقاد بتصنيفها كأعظم أغنية في تاريخ الغناء العربي، فقد نجح القصبجي باستغلال قدرات أسمهان الصوتية لأقصى درجاتها وتحويلها إلى مغنية سوبرانو، وتنقَّل بين المقامات الغربية والشرقية بطريقة عجيبة، وأشك أن أي مطربة عربية أخرى كان بإمكانها غناء مثل هذا اللحن المعقَّد المنمَّق، خاصة في زماننا، لسرعة وانسيابية تنقله من حالة السكون إلى الثوران ثم السكون مرةً أخرى.

أشاهد مراراً وتكراراً فيديو أغنية "ليالي الأنس في فيينا" ليومنا هذا، وفي كل مرة ألاحظ شيئاً جديداً يدهشني، مع أنه قد تم إنتاج الأغنية خلال تصوير فيلم "غرام وانتقام" في عام 1944، أي قبل ما يقارب الثمانين سنة.

لاحظت مثلاً أن أغنية "ليالي الأنس في فيينا" تبدأ برقصة تشارك فيها خمس راقصات وبالمقابل هناك أربعة راقصين ذكور ومعهم راقصة بثياب الرجال، ربما كان لديهم آنذاك نقص في عدد الراقصين. كان يتم عزف الجيتار خلال الأغنية بطريقة تشبه عزف آلة القانون، أيضاً عند مقارنتي لمستوى إنتاج وإخراج هذه الأغنية مع الأغاني العربية الحديثة، أقولها بكل ثقة وصراحة، أنها تتفوق عليها بشكلٍ واضح.

أما فيما يخص لحن فريد الأطرش لأخته أسمهان، فهو لم يرأف بها وتحدَّاها منذ بداية "ليالي الأنس في فيينا" بجملٍ موسيقية تتطلب من أسمهان الارتقاء بصوتها لطبقات عالية جداً، ولكن أسمهان لم تخيِّب ظنه، وأعطت أكثر مما هو مطلوب منها.

هذا الذي كان يتمناه ولم يجده الموسيقار فريد الأطرش بعد أسمهان، فقد صرح في مقابلة تلفزيونية قبل وفاته بقليل، بأن في حوزته ألحاناً عظيمة مكدسة لم يجد بين مطربات ومطربي ذلك الزمان من يستطيع غناءها، طبعاً، باستثناء أم كلثوم والتي للأسف تفادت غناء ألحانه.

أما الملاحظة الأخيرة، فإنه قد ثبتت صحة كلام الصحفي محمد التابعي عن عينيها، فالمخرج وببراعة يتعمد التقريب المتدرج للكاميرا تجاه عينيها عند بداية الأغنية، كنوع من التشويق، ومن ثم ينتقل إلى حالة الصدمة وإدخال الروع إلى قلوب المشاهدين، خاصة حبيبها في الفيلم، والذي جسد شخصيته الممثل القدير "أنور وجدي"، بتثبيت الكاميرا لعدة ثوانٍ على عينيها فقط، فيتفاعل الجمهور بالتصفيق الحار نتيجة دخولها المهيب للمسرح.

قرأت مرةً عن أسمهان بأنها "العاشقة والمعشوقة واللاعبة بالقلوب والمصائر"، أشهد أن هذا أدق وصف قرأته عن أسمهان، ويكفيها فخراً أن أعظم قامات الموسيقى العربية؛ أمثال رياض السنباطي، وبليغ حمدي، قد تفنَّنوا في كيل المديح لها، فالسنباطي قال عنها: "لم تنافس مطربة أم كلثوم إلا أسمهان".

أما بليغ حمدي فقد تمنى لو سنحت له الفرصة لكتابة ألحان جميلة بصوتها الشجي. أما عن نفسي فأقول إن أهم ما يميز أسمهان، أنها كانت تملك صوتاً صافياً رناناً لا صارخاً حاداً كأصوات هذا الزمان.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

جنارا مراد
كاتبة مهتمة بالثقافة والفن والسياسة
كاتبة مهتمة بالثقافة والفن والسياسة
تحميل المزيد