بدأت منصة نتفيلكس تُنتج منذ فترة عدداً ملحوظاً من الأفلام والمسلسلات، التي تناقش قضايا المراهقين، والتي تتوجه من خلالها إلى جمهورها من الشباب وتحاكي مشاكلهم وهمومهم الحياتية.
ومع استثناء مسلسل Sex Education، الذي يبدأ عرض موسمه الرابع في بداية العام 2023، فقد اعتاد الجمهور أن تناقش هذه الأعمال مرحلة المراهقة بشكلٍ سطحي، لهدف التسلية فقط وإعطاء الشعور الجيد؛ من دون الغوص جدياً في مشاكل مرحلة المراهقة أو حتى بناء جيد للشخصيات. لكن الوضع مختلف في مسلسل Never Have I Ever.
بدأ عرض مسلسل Never Have I Ever -الذي سُمّي على اسم لعبة التحدي الشهيرة- بين المراهقين- في العام 2020، وقد عُرضت منه حتى الآن ثلاثة أجزاء، على أن يُعرض الموسم الرابع والأخير في العام 2023 كما أعلنت نتفليكس.
Never Have I Ever للمؤلفة الأمريكية من أصول هندية، ميندي كالينغ، التي استوحت المسلسل من أحداث طفولتها الحقيقية. ومنذ أول أجزائه، استطاع العمل أن يحقق شهرةً واسعة في العالم والعالم العربي أيضاً.
رغم الجو العام للمسلسل، الذي يمتاز بالكوميديا، إلا أنه يناقش مشاكل كثيرة يواجهها المراهقون، من خلال الشخصية الرئيسية للمسلسل ديفي.
وديفي هي فتاة مراهقة في السادسة عشرة من العمر، من أصولٍ هندية، وقد هاجر والدها إلى الولايات المتحدة منذ سنوات لضمان مستقبلٍ أفضل لها.
نعرف من الحلقة الأولى أن ديفي كانت مقرّبة من والدها، الذي توفي بشكلٍ مفاجئ أثناء حفلة مدرسية لها، فعانت الابنة من مشاكل نفسية وشخصية كثيرة. بدايةً من الشلل النصفي جراء الصدمة النفسية، وصولاً إلى مشاكل في السيطرة على الغضب.
مسلسل Never Have I Ever يُروى بشكلٍ أساسي من وجهة نظر ديفي، ويحكي قصتها لاعب التنس الأسطوري جون ماكنرو. لماذا؟ لأنه كان اللاعب المفضل لدى والدها، والذي ما زالت ذكراه تزورها كلّ فترة.
لا تُجيد ديفي التعامل بشكلٍ جيّد مع الفقد؛ فهي تتجاهل مشاعرها -وأحياناً من غير قصد- وتذهب إلى جلسات العلاج النفسي لتتحدث عن مشكلاتها العاطفية، وكل ما تواجهه يومياً في المدرسة، رغم أن الهدف الأساسي لهذه الجلسات أن تتحدث عن والدها.
مسلسل Never Have I Ever.. أزمات هوية
لا تشعر ديفي بالانفصال فقط عن أصولها الهندية، بل تشعر أيضاً بالخجل من ثقافتها وتحاول أن تخفيها قدر الإمكان عن زملائها في المدرسة. فهي لا تؤمن كثيراً بالعقيدة الهندوسية وتريد أن تكون أمريكية تماماً.
وأحد أكبر أسباب توتر العلاقة مع والدتها هو أنها (أي الأم) أرادت أن تعود بابنتها إلى الهند، بعد وفاة والدها، لأنها خشيت من تحمّل مسؤولية تربيتها بمفردها في بلادٍ أجنبية.
أحداث مسلسل Never Have I Ever توضح الأزمة التي يواجهها هذا الجيل من أبناء المهاجرين، بين الشعور بالانفصال عن الجذور، والانسحاق تماماً تحت هيمنة ثقافية للمجتمع الجديد. فأكبر مشاكل ديفي يتمثل في خوفها من أن تواجَه بالسخرية، إذا ما عبّرت عن نفسها كهندية، أو اندمجت مع ثقافتها.
لكن ديفي ليست الشخصية الوحيدة ذات الأصول المهاجرة في المسلسل، فهناك أيضاً باكستون -وهو أحد أبطال المسلسل- ووالده ياباني.
رغم شعبيته الكبيرة ووسامته، إلا أن لدى باكستون مشاكل شخصية أيضاً. فهو يتعامل مع العالم بمظهره وشعبيته، ويُخفي حقيقة أنه يُحبّ أسرته ويعتز بها، خصوصاً شقيقته المُصابة بمتلازمة داون، وهما مقرّبان جداً.
في إحدى حلقات الجزء الثاني، يُروى مسلسل Never Have I Ever من وجهة نظر باكستون نفسه على لسان عارضة الأزياء الشهيرة جيجي حديد. وتوضح حديد أنها تتشابه كثيراً مع باكستون، لناحية أن كليهما يُنظر إليهما كمظهرٍ لا كجوهر.
وبجانب باكستون فهناك أيضاً بين (Ben)، وهو الفتى اليهودي الذي ينافس ديفي على التفوّق ولا يستطيع التعبير عن مشاعره بوضوح، إلى جانب ارتباطه بصورة والده الناجحة ومحاولاته المضنية لإرضائه.
قلقٌ مرَضي، قلة ثقة في النفس، وأزمات غضب
في الأجزاء التالية من مسلسل Never Have I Ever، يتضح لنا أن ديفي تعاني من مشاكل نفسية أكبر. ففي الجزء الأول نتصور أن مشاكلها قد تكون سببها صدمة فقدان أبيها بشكل مفاجئ، لكن ما نلبث أن نتعرف إلى شخصيتها بشكلٍ أوضح.
تفتقر ديفي إلى الثقة بالنفس بشكلٍ يجعلها أحياناً تُقدم على أذية الآخرين، حتى لا يتفوقوا عليها، بدافع الغيرة. لا تستطيع أن تقول لا، ولا أن تفكر في غيرها كثيراً، فتواعد شابين في الوقت نفسه من غير علمهما. تدمّر علاقتها بالشاب الذي تحبّه كثيراً؛ لأنها لا تثق في نفسها، ولا تصدق أنه يُمكن أن يحبّها.
علاقتها بوالدتها زادت توتراً بعد وفاة والدها، لكننا نشاهد لحظات من المواجهة والحقيقة بينهما، ينتج عنها نوعٌ من التفهّم والتقرّب التدريجي.
ما يميّز مسلسل Never Have I Ever أن شخصيات أبطاله تتطور تدريجياً مع كل موسم، ويظهر ذلك واضحاً. نعيش مثلاً مع تغيّرات شخصية ديفي، ونلاحظ نضجها في الموسم الثالث، وكأننا أمام شخصية حقيقية فعلاً، لا شخصية مكتوبة لعملٍ تلفزيوني.
رغم أن الشخصيات الرئيسية في المسلسل هي مراهقة، إلا أن استعراض مشاكل البالغين مكتوب أيضاً بشكلٍ جيد. فالأم التي فقدت زوجها حديثاً، تفتقر إلى حياةٍ اجتماعية سوية، لأنها تعمل طول الوقت.
كذلك الأمر بالنسبة إلى كاميلا، قريبة ديفي الشابة، التي أتت إلى الولايات المتحدة لاستكمال رسالة الدكتوراة. ورغم ذلك، فهي تواجه ضغطاً عائلياً لتتزوج من شابٍ لا تعرفه ولا تحبه؛ حيث لا توجد بينهما أرضية مشتركة.
ديفي شخصية مراهقة، متسرّعة، وعصبية، وتُلقي بنفسها في الكثير من المشاكل؛ إلا أن المشاهد لا يستطيع أن يكرهها، ولعلّه يتعاطف معها في معظم الأحيان.
نجحت المؤلفة ميندي كالينغ أن تكتب نصاً مُحكماً، تُبرز فيه تركيبة شخصية ديفي وأسباب تصرّفاتها، يجعلنا نقف أمام أنفسنا كثيراً ونراجع مراهقتنا ومراهقة من حولنا، ليس فقط بل نعيد النظر في الحُكم عليها.
ورغم الصبغة الكوميدية لمسلسل Never Have I Ever، إلا أن الجزء الأول يُعتبر ثقيلاً على الصعيد النفسي. فالكثير من المشاعر المكبوتة تخرج إلى العلن وتنفضح، في مشاهد مواجهة ثنائية قوية.
Never Have I Ever هو مسلسل جذاب للمراهقين، يعتمد على الصورة الجيدة والأزياء والشكل الخارجي، لكنه مع ذلك لا يخلق شعوراً مزيّفاً بأن كل شيء على ما يرام، ولا أن مشاعر المراهقين سطحية ومؤقتة. بالعكس تماماً، فهو يتعامل بجدية مع هذه المشاعر، من دون الإسهاب في التراجيديا.
تجدر الإشارة أخيراً إلى أن الموسم الرابع من Never Have I Ever سيكون الأخير، ومن المتوقع أن يُعرض على نتفليكس في منتصف العام 2023، من دون تحديد التاريخ. لكن الممثلة مايتري راماكريشنان، التي تلعب دور ديفي، كانت قد أعلنت انتهاء التصوير في شهر أغسطس/آب 2022 الماضي.