في مشادةٍ كلامية بينهما، يقول مايك لصديقه ويل: "نحن لم نعُد أطفالاً، هل ظننتَ أننا سنجلس في القبو طوال اليوم ونظلّ نلعب بقية حياتنا؟".
سُجّل هذا الحوار في الموسم الثالث من سلسلة Stranger Things، لكنها تعبّر أكثر عن الموسم الرابع الذي صدر في يونيو/حزيران 2022، فكانت حقيقةً اتضحت -بلا لبس- فيما بعد: ليس الأطفال وحدهم من أصبحوا كباراً، بل كل شيءٍ آخر في المسلسل.
كثيرون ظنّوا أن Stranger Things قد استنفد كل أوراقه، من نوستالجيا ورعب الثمانينيات؛ لكن الجزء الرابع فاجأ العالم وحقق شعبية جامحة، ليُصبح ثاني مسلسل لـ"نتفليكس" يكسر حاجز المليار ساعة مشاهدة خلال أول 28 يوماً من إطلاقه -بعد المسلسل الكوري Squid Game- وفقاً لما جاء في موقع "إندي واير".
الجزء الرابع من Stranger Things
أهم ما جاء به هذا الموسم بالفعل هو النضج غير المسبوق، وقد أكد الممثل جاتين ماتارازو (مؤدي دور داستين) ذلك حين قال إن المسلسل نضج مع أبطاله.
فقد أشار ماتارازو إلى قدرة الأخوين دافر (صنّاع المسلسل) على دمج مكابدات تقدّم الممثلين في العمر مع الشخصيات التي يؤدونها، مضيفاً أنهم لم يفزعوا عندما أصبح الممثلون أطول أو حين خشنت أصواتهم؛ بل استغلّوا ذلك كذخيرةٍ لكتاباتهم.
لكن، كيف عَبَر المؤلفون والأبطال والجمهور جسر النُضج معاً؟ فيما يلي نسرد أهم ما تجلّى فيه ذلك، مع الانتباه إلى أن بعض المعلومات قد تتضمن حرقاً للأحداث.
الأطفال لم يعودوا أطفالاً
مرّت 6 سنوات منذ عرض الجزء الأول من المسلسل في يوليو/تموز 2016، حين كانت بطلة العمل الرئيسية ميلي بوبي براون (إيلفين) بعمر 11 عاماً، واليوم هي بعمر 18. لطالما كانت أهم ركيزة في المسلسل هي تمحوره حول أبطاله الصغار، لكنه نجح في مواكبة نمو الممثلين.
نرى في هذا الموسم كيف أصبح الأطفال الصغار -الذين عرفناهم في الموسم الأول- مشحونين بصراعات مرحلة المراهقة، مثل أزمة الهوية لدى إيل التي فقدت قواها في الموسم السابق وتشعر بعدم الانتماء، بالإضافة إلى تعامل الشخصيات المختلفة مع اضطراب ما بعد الصدمة.
نبدأ أيضاً في رؤية التوتر الذي يطغى على العلاقات، التي بدت بديهية وبسيطة من قبل، مثل العلاقة بين ويل وإيل في ظلّ المسافة البعيدة؛ إضافةً إلى علاقة ماكس ولوكاس بعد صدمة موت بيلي، وعلاقة نانسي وجوناثان، وويل ومايك (الذي يلمح المسلسل لكون ميوله مثلية).
ذهبت الوحوش وجاء الشرير
لم يعد العدو المركزي هنا مجرد وحش بلا مشاعر يقتل بغريزة حيوانية، بل أصبح لدينا تناول أكثر تعقيداً من خلال اكتشافنا لفيكنا، شخصية لها طبقات ودوافع عدّة؛ كان إنساناً في الماضي، وأسلحته نفسية بالدرجة الأولى. فهو يقتات على الصدمات النفسية التي تؤرق ضحاياه، ويستخدم ذكرياتهم الأليمة ضدّهم، ولا يكتفي بالتهام الناس مثلاً أو تلبُّسهم مثل الوحوش السابقة.
يستطيع فيكنا التلاعب بالمكان أيضاً، ليقتل ضحاياه في بُعدٍ موجود بين الواقع والعالم المقلوب، أي إنه لا يهاجمهم بشكلٍ مرئي؛ في أسلوبٍ مُثستوحى من سلسلة أفلام الرعب "كابوس شارع إيلم"، لهذا يندهش الناس وهم يشاهدون الضحية ترتفع في الهواء وتموت بشكلٍ وحشي من دون رؤية القاتل.
في أسلوب مواجهةٍ نفسيّ عميق، على مستوى العدو الجديد، تعترف ماكس لصديقها لوكاس بأن فيكنا "يستخدم ذكرياتي ضدّي، فقط الأليمة منها، كأنه لا يرى إلا الظلام فينا". وتقرر أن تواجهه عبر الهروب بشكلٍ واعٍ لأكثر ذكرياتها إشراقاً، "سأجد ذكرى سعيدة وأختبئ فيها".
وهنا يتضح أسلوب مواجهة جديد، لا يقتصر على موازين القوى الماديّة البحتة، كتلك التي نراها في المواسم السابقة.
رعب حقيقي أكثر في Stranger Things 4
ندرك من أول دقائق الموسم الرابع أننا بصدد رعبٍ مختلف هذه المرة. هناك دموية غير مسبوقة، ومشاهد لمذبحة غامضة تُطلّ علينا من افتتاحية الحلقة الأولى، حتى إن نتفليكس أضافت في اللحظة الأخيرة تحذيراً بخصوص "مشاهد عنف تتضمن أطفال"، في أعقاب حادث إطلاق النار في مدرسة تكساس والذي خلف 21 قتيلاً، من بينهم 19 طفلاً.
يُستمد الرعب في المسلسل من تصنيفات رعب أكثر نضجاً مثل "رعب الجسد المشوّه"، الذي يتلاعب بتكوين الجسم البشري ليجعله مشوّهاً بشكلٍ مخيف. فالوحش هنا له جسدٌ بشري، لكنه منزوع الجلد عاري اللحم، بلا غضروف أنف، وله عروق وجه نافرة، كما يلتف على جسده تكوين يشبه الأفاعي اللزجة. أما أصابعه فهي تشبه المخالب، مع نهاياتٍ مدبّبة تحاصر وجوه ضحاياه، كل هذا عبر مكياج مُتقن للغاية استغرق وضعه ساعات.
كل تلك التفاصيل جعلت الوحش حقيقياً أكثر، من دون الاعتماد على تقنية المؤثرات البصرية CGI المُستخدمة في الوحوش السابقة، بل إنه موجود في الحيز الذي يوجد فيه الممثلون.. وبالتالي جاءت تفاعلاتهم معه واقعية وأصيلة، لدرجةٍ أن بطلة العمل ميلي بوبي براون تحدثت عن ذلك في حوارٍ لها، قائلة: "في المرة الأولى التي شاهدت فيها فيكنا، كان هذا حقيقياً جداً. نظرتُ إليه وفكرت: ما هذا؟ لم أعلم بذلك، ظننت انه سيكون CGI".
وقال الممثل، الذي يؤدي دور فيكنا، إن ميلي بوبي براون "انفجرت بالبكاء" حين ظهر معها في المشهد للمرة الأولى. ليس من المستغرب إذن أن تكون مشاعر الخوف قد وصلت إلينا، نحن المشاهدين، بقوةٍ وعنف".
يعتمد المسلسل أيضاً على تصنيف "رعب التقطيع" الذي ازدهر في الثمانينيات، حين يقوم الشرير -بموجبه- بترصد ضحاياه وملاحقتهم وقتلهم بشكلٍ وحشي ومشوّه، في مستوى وحشية لم يره من قبل جمهور المسلسل الذي كان صديقاً للعائلة أكثر. فالضحايا، في الجزء الرابع، يرتفعون في الهواء وتتكسّر عظامهم على التوالي، وتُفقأ أعينهم، قبل أن يسقطوا صرعى.
مسارات والتواءات القصة
بشكل جديد على المسلسل تماماً، تتوسع القصة لعدد من المواقع خارج هوكينز، لتضع الشخصيات معاً في مجموعاتٍ متفرّقة ومنفصلة عن بعضها البعض، في 3 مسارات متوازية ضمن أماكن متباعدة، عبر حلقاتٍ طويلة يزيد طول الواحدة منها عن الساعة.
تبدو مسارات القصة في البداية منفصلة ولا علاقة لها ببعضها. فهناك هوبر العالق في سجن سوفيتي، والأصدقاء في هوكينز الذين يحققون في جرائم قتل غامضة على يد فيكنا، والأصدقاء في كاليفورنيا الذين تتركهم إيل لتحاول استعادة قواها الخارقة من مكان سري في الصحراء. تبدو مسارات القصة منفصلة وتصل كل منها إلى ذروتها على حدة، قبل أن تتشابك معاً بشكلٍ تدريجي.
هناك أيضاً التواءات القصة الحادة التي جعلت المشاهدين يشعرون بالدهشة، مثل اكتشاف ماضي إيل، وهوية فيكنا، وحقيقة مذبحة مختبر هوكينز.
النوستالجيا مستمرة في Stranger Things.. ولكن
لم تعد نوستالجيا الثمانينيات تقتصر في هذا الموسم على الأزياء والأماكن، بل بدأ المسلسل يشتبك مع الأفكار، بشكلٍ ساخر أحياناً. هناك إشارات للحرب الباردة ونظريات المؤامرة، وهناك تصوير لحالة الهلع والبارانويا مما يُسمى "عبدة الشياطين" التي سادت آنذاك.
هناك مشهد يدخل فيه مراهق أبيض إلى تجمع من أهل البلدة، فيشحن الغوغاء بخطاب شعبوي خالص يُشيطن من خلاله الشاب إيدي مونسون، الذي يبدو مختلفاً عنهم أو "أقلية". فيملأ عقولهم بنظريات المؤامرة وعبدة الشياطين، لحشدهم ضدّ الشاب البريء.
جمهور أكبر وينتظر ما هو أكثر
لم يكن الموسمان الأول والثاني دمويين أو مرعبين بشكلٍ خاص، لكن مشاهد القتل والعنف والرعب أصبحت أكثر حدة بداية من الموسم الثالث.
تصنيف مسلسل Stranger Things هو TV-14 على نتفليكس، أي إنه يستهدف جمهور المراهقين والبالغين. وبما أن 6 سنوات مرّت على عرض المسلسل للمرة الأولى، فيمكننا أن نتوقع أن الفئة التي كانت آنذاك في هذا العمر، قد تخطت سن الـ18، وبالتأكيد تنتظر ما هو أكثر.
يأتي المسلسل في وقتٍ تُعتبر "نتفليكس" مأزومة فيه؛ ففي الربع الأول من العام 2022، عانت الشركة من أول خسارة للمشتركين فيها منذ عقد، مما أدى إلى انخفاض أسعار الأسهم من 300 مليار إلى أقل من 90 ملياراً، كما أبلغت عن خسارة ما يقرب من مليون مشترك في الربع الثاني من 2022.
لكنَّ المراقبين يرون أن نجاح المسلسل المدوّي غير كافٍ لإنقاذ نتفليكس؛ وبالنظر إلى تقليص العمال والميزانيات الذي عانت منه منصة البث هذا العام، فمن غير المرجح أن تكرر إنفاق 30 مليون دولار على الحلقة الواحدة، مثلما فعلت في الموسم الرابع من Stranger Things.
كما أن إحصاءات شركة "باروت أناليتيكس" المختصة بقياس الطلب العالمي على المحتوى الترفيهي، وجدت انخفاضاً في الاهتمام بالأعمال الأصلية لنتفليكس؛ حيث انخفض من 45.2٪ في الربع الأول من عام 2022 إلى 41.2٪ في الربع الثاني من عام 2022.
وكانت المرة الوحيدة التي انخفض فيها بنسبة أكبر في الربع الرابع من عام 2019، عندما تم إطلاق كل من Disney Plus وApple TV Plus. ولكن ذلك يحدث من دون إطلاق أي منافسين جدد، مما يعني أن نتفليكس تواجه مشكلة حقيقية، لن يكون فيها Stranger Things طوق الإنقاذ.