غيرت ثورة 1919 ملامح المشهد السياسي والاجتماعي في مصر في تلك الفترة، ووصل تأثيرها إلى الأغنية الوطنية المصرية الخالدة حتى اللحظة، ومزج بين الصوت السياسي والاجتماعي في الشارع، وبين الصوت الغنائي على المسرح وفي الإذاعات وشاشات التلفزيون لاحقاً. أيضاً؛ على الجهة الأخرى شارك الفنانون والشعراء والمطربون مع فئات المجتمع الأخرى في صنع هذه الأحداث التاريخية.
الأغنية الوطنية المصرية.. "أهو ده اللي صار" وثورة 1919
الأغاني الوطنية التي أنتجت في فترة ثورة 1919 أصبحت جزءاً مهماً من تاريخنا الغنائي المستعاد دائماً، مثل أغنية "أهو ده اللي صار"، والتي غناها أغلب المطربين، إما بشكل كامل أو على الأقل في جلسة أصدقاء، أو في أحد البرامج، تلك الطقطوقة التي شرحت أسباب الثورة: "خير بلادنا ماهوش في إيدنا"، وقدم سيد درويش لحناً بسيطاً خفيفاً يسهل حفظه وغناؤه، لتصبح واحدة من أشهر وأهم الأغاني في التاريخ الموسيقي العربي.
أيضاً؛ نجد أن النسخة الأقدم من الطقطوقة، تتحدث عن سعد زغلول في "يا مصر يا أم العجايب.. سعدك أصيل والخصم عايب"، ثم غيرت الكلمة إلى "شعبك" في النسخ الحديثة للأغنية، كما أشار تقرير بوابة "دار الهلال".
كلمات مقتبسة من شعارات الثورة
أما العامل الآخر في تأثر كلمات الأغنية الوطنية بالشعارات، هو مشاركة أغلب الفنانين في تلك المظاهرات، وعلى رأسهم الثنائي سيد درويش وبديع خيري؛ ما جعل الأغاني تخرج من قلب الأحداث والمظاهرات، فاختلطت الأغنيات بالهتافات والخطابات السياسية لزعماء الثورة.
فعلى سبيل المثال؛ اقتبست جملة "بلادي بلادي لكي حبي وفؤادي" في النشيد الوطني، من أقوال مصطفى كامل، بينما اقتبست جملة "إنت تحب الحرية.. والاستقلال التام"، من جملة سعد زغلول "الاستقلال التام أو الموت الزؤام"، وكانت تلك الجملة من أغنية "خد البزة"، والتي غنتها نعمية المصري، وزكي مراد، مع اختلاف المقاطع والكلمات في كل أغنية، لكن المذهب "خد البزة واسكت خد البزة ونام"، هو من أصل فلكلوري، وكلمة "بزة" في أغنية زكي مراد يقصد بها البدلة العسكرية.
الوحدة الوطنية في الشارع والأغنية
في خضم كل ذلك كانت بدأت تتبلور وتترسخ فكرة الأغنية الوطنية، ورؤية الوطن بشكل جديد في كلمات تغنى لأول مرة على مسامع المشاركين في الثورة، مثل "أنا المصري كريم العنصرين"، ونشيد "أحسن جيوش في الأمم جيوشنا"، و"الجيش رجع م الحرب"، و"يا أباة الضيم يا فخر العرب"، و"إحنا الجنود زي الأسود"، و"دقت طبول الحرب يا خيالة"، و"قوم يا مصري".
كما بدأ تأكيد فكرة الوحدة الوطنية بين الأديان الثلاثة في الأغنية الوطنية مثل كلمات "إيه نصارى ومسلمين قال إيه ويهود، دي العبارة نسل واحد م الجدود"، كانت تلك فترة مهمة في الشارع والأغنية لإظهار التنوع المجتمعي والوحدة بين طوائفه.
حفزت تلك الحالة، خيال الشعراء، وبالطبع على رأسهم كان بديع خيري، وتعمقه في استكشاف تلك المنطقة، والتعبير عنها بكل الطرق والأشكال الممكنة، فتخرج جملة مثل "ما قلتلكش إن الكترة لابد يوم تغلب الشجاعة، وأديك رأيت كلام الأمرا طلع تمام ولا فيهشى لواعة"، أو المزج مع الفلكلور، مثل أغنية "سالمة يا سلامة"، والتي كتبت في بداية الأحداث، وبنى بديع خيري الأغنية على المذهب الفلكلوري "سالمة يا سلامة، رحنا وجينا بالسلامة"، ولا يعلم أصل تلك الجملة، لكن كانت النساء ترددها في طريق عودتها إلى قريتها.
الاحتلال البريطاني ضد الأغنية الوطنية
اقتبست الأغنية الوطنية من شعارات الثورة ضد الاحتلال البريطاني وأضافت لها، وكان طبيعياً أن يقف لها الاحتلال البريطاني مثل الثورة، فمثلاً عندما أصدرت السلطات البريطانية قراراً بسجن وجلد كل من يتلفظ باسم سعد زغلول، نشأ نمط جديد في التورية واللعب بالكلمات لكتابة الأغنية السياسية.
إذ استخدم اسم زغلول في أغنية "يا بلح زغلول" للمطربة نعيمة المصرية، والتي منعت لاحقاً من العرض على مسرح البالون ضمن المسرحية الغنائية التي تحمل اسم "سيد درويش"، واستخدم أيضاً في أغنية "شال الحمام حط الحمام.. زغلول وقلبي مال إليه"، من كلمات يونس القاضي وألحان محمد القصبجي، وغناء منيرة المهدية، وكانت الأغاني تطالب بعودته لمصر بعد نفيه، كما أشار تقرير موقع "البوابة نيوز" المصري.
قدمت الأغنية الوطنية دوراً إعلامياً وتشجيعياً أيضاً، مثلما قدم سيد درويش أغنية "هز الهلال يا سيد"، بعد عودة الموظفين الحكومة من الإضراب، والخوف من قرارات الاحتلال البريطاني، فغنى "هز الهلال يا سيد كراماتك لاجل نعيّد.. يكفى اللى حصل كام يوم ووصل بقى زرع بصل، هديت واهو راق الحال ورجعنا للأشغال.. حد الله ما بيني وبينك غير حب الوطن يا حكومة، عشرين يوم راحوا علينا انشالله ياخدوا عينينا.. بس المقصود يبقى لنا وجود والدنيا تعود".
وغنى أيضاً على لسان الحشاشين في لحن "التحفجية"، "وأقولك الحق يوم ما نلقى.. بلادنا طبّت في أي زنقة، يحرم علينا شربك يا جوزة.. روحي وأنت طالقة مالكيشي عوزه، دي مصر عايزة جماعة فايقين.. يا مرحب"، كلها كانت نتاج تفاعل الأحداث مع جميع الفئات.
المرأة في الثورة والأغنية الوطنية
كانت السيدات والفتيات على رأس فئات الثورة، وشارك بديع خيري وسيد درويش في تأكيد وإعلاء دورهن في أحداث الثورة بشكل خاص، وفي نهضة البلاد بشكل عام، مثل أغنية "بنت اليوم" التي غنتها رتيبة أحمد، والتي تقول: "ده وقتك ده يومك يابنت اليوم.. قومي اصحي من نومك بزياداكي نوم.. وطالبي بحقوقك واخلصي من اللوم"، وناقشت أوضاع المرأة وحقوقها وطالبت بأن تمارس حقوقها المشروعة، كالحق في الانتخاب، وأغنية "بنت مصر" التي غنتها حياة صبري على أثر استشهاد حميدة خليل ودرية شفيق، أّول شهيدتين مصريتين في أحداث ثورة 1919.
اشتبكت تلك الأغاني مع الأحداث المصيرية والروح السياسية والوطنية، ورغم أنها كانت التجارب الأولى، لكنها أصبحت تراثاً متوارثاً يشهد على لحظة وطنية وفنية مختلفة، كما أصبحت تراثاً فنياً يستدعى في لحظات سياسية مشابهة؛ إذ غنت عدداً من تلك الأغاني خلال مظاهرات ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011.
قد يهمك أيضاً: كتب "أنا مظلوم" في عهد السادات ثم غنى للثورة وعبد الناصر.. الريس حفني وصناعة الفلكلور الموسيقي