ربّما لم يدُر بذهن عائلة الفنّان إيدير في قرية "إيت لحسين" بمنطقة القبائل الكبرى لأعالي جبال جرجرة بمنطقة بلاد القبائل الجزائرية، أنّ "حميد شريّت" ابنهم الوليد الذي جاء إلى الدنيا في خريف عام 1949، والذي غيّر اسمه لاحقاً ليصبح "إيدير"، من أشهر الفنانين الجزائريين وسيمنح قريته النائية وثقافته المهمّشة طيلة عقود، العالمية وشهرة منقطعة النظير إلى حدّ هذه اللحظة.
من الجيولوجيا وشركات النفط إلى الغناء للأطفال
وُلد الفنان إيدير يوم 25 أكتوبر/تشرين الأول عام 1949 في كنف عائلة بسيطة، امتهن والده مهنة رعي الأغنام، فيما تمتَّعت كلّ من جدّته ووالدته بموهبة الشعر، وهو ما جعل بيتهم الصغير قبلة لأبناء منطقته، ليستمتعوا بعذوبة أشعارهما، في ظلّ هذه الثقافة الشفوية تشبّع إيدير بهويته الأمازيغية وحفظ العديد من القصص من التراث الأمازيغي لتصبح فيما بعد مصدر إلهامه.
نبغ إيدير في دراسته الابتدائية وظهرت عليه موهبة الغناء، وهو الأمر الذي دفع أستاذ العلوم الطبيعية لتشجيعه على عزف الجيتار وهو لم يتعدَّ التاسعة من عمره بعد، ورغم براعته في الغناء والعزف، لم يكن في ذهن إيدير منذ طفولته وصولاً إلى سنوات شبابه الأولى أن يتفرغ للفنّ ويصبح مطرباً.
درس إيدير علم الجيولوجيا (علوم الأرض) وكان من المفترض أن يلتحق بإحدى الشركات النفطية في صحراء الجزائر، لكنّه وجد نفسه عن طريق الصدفة في الإذاعة الجزائرية عام 1973، ليعوّض فنّاناً غائباً ويسجل أغنية للأطفال، والطريف في الأمر أنّ والدته أعجبت بصوت المغني دون أن تدري أنه صوت ابنها.
"أفافا إينوفا" أغنية الحظ التي نقلت إيدير من المحلية إلى العالمية
أنهى إيدير الخدمة العسكرية سنة 1973 وبعد أشهر قليلة عاد مجدداً إلى المجال الفنّي وغنّى الأغنية الأشهر في تاريخ الثقافة الأمازيغية، أفافا إينوفا، وهي من تأليفه، وقام بتسجيلها في استديو القناة الأمازيغية، وتتحدّث الأغنية عن أسطورة أمازيغية متوارثة في بلاد القبائل وتروي حكاية فتاة تدعى غريبة تعمل في الحقول، لتعيل والدها وإخوتها الصغار، وكلّ مساء تعود متعبة، تطرق غريبة باب منزلهم ولكن يحتار والدها في فتحه خوفاً من بطش وحش الغابة، ويصرّ الوالد على ابنته أن ترجّ أساور يدها حتى يتأكد من أنّها هي.
في عام 1979 كتب إيدير مجموعة من الأغاني وأطلق ألبومه الثاني بعنوان "أياراش إناغ"، لم ينتج إيدير أيّ ألبوم جديد طيلة الثمانينات، ثمّ عاد إلى الغناء في فترة التسعينات وغنّى مع الشابّ خالد سنة 1996 في حفلة مشتركة بفرنسا.
اغتيال معطوب لوناس يعيد إيدير إلى الغناء بعد غياب
بعد اغتيال الفنان الأمازيغي معطوب لوناس ببلاد القبائل سنة 1998 من طرف جماعة متشدّدة في بلاد القبائل أثناء فترة ما عرف بالعشرية السوداء بالجزائر، أعاد إيدير تسجيل وتوزيع أغنيته أفافا إينوفا بشكل جديد، سنة 1999 بفرنسا، وتمّت ترجمتها إلى خمسة عشرة لغة بل كانت أوّل مقطوعة من شمال إفريقيا تصل إلى العالمية.
وعلى عكس معطوب لوناس الذي اقتصر حضوره فقط في بلاد القبائل دون بقيّة المدن الجزائرية، وذلك نتيجة عدائه الصريح والواضح للمكوّن العربي والإسلامي لهويّة الجزائر باعتباره دخيلاً على الثقافة الجزائرية.
لكنّ إيدير نجح في الدخول إلى كلّ البيوت الجزائرية دون استثناء طيلة عقود لأنّه لم يتورط في عداء الجزائريين غير الأمازيغ، حيث قال عنه عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو "إيدير ليس مغنياً مثل الآخرين، إنّه فرد من كلّ عائلة".
الهوية الأمازيغية في مسيرة إيدير الفنيّة
تمسك إيدير بهويته الأمازيغية في أغنياته التي قدمها طيلة مسيرته الفنيّة، وحول سؤاله عن قلّة انتاجه مقارنة بباقي أبناء جيله، أجاب إيدير: أنا لا أفضلّ الكتابة عن أشياء لم أعِشها. نقل إيدير من خلال أغنياته الواقع لحياة الأمازيغ في الجبال، تحدث عن الأمهات مخضات اللبن في جبال بلاد القبائل ونقل حيثيات عيشهن البسيط في أغنيته "اسندو".
غنّى إيدير عن مقاومة الأمازيغ للأعداء الذين يرغبون في السطو على أراضيهم، وعن دور الولد في العائلة الأمازيغية الذي يجهز منذ ولادته للقتال من أجل تحرير أرضه، في أغنيته شفيغ أمزون ذيظلي وتعني أتذكر وكأنّه أمس.
ناضل إيدير من أجل الاعتراف بهويته في بلده الأمّ الجزائر من خلال الغناء، فعرف بسفير الأغنية الأمازيغية نتيجة للدور البارز الذي لعبه من أجل التعريف بالهويّة الأمازيغية.
كموقف سياسي اتخذه إيدير ضدّ تهميش النظام الجزائري للأمازيغ وثقافتهم الأصلية قاطع الغناء طيلة 39 عاماً في موطنه الجزائر مكتفياً بإحياء الحفلات في الخارج لا سيّما أنّه قد أقام بفرنسا منذ منتصف السبعينات من القرن الماضي.
عاد إيدير إلى الغناء في وطنه عام 2017 وذلك بعد الاعتراف باللغة الأمازيغية كلغة وطنية ورسمية ثانية في الدستور الجزائري عام 2016.
رحيل إيدير واعتراف شعبي وعالمي بما قدّمه
رحل إيدير في مايو/أيار 2020 وكانت وفاته حدثاً عالمياً، تناقلته وسائل الإعلام العربية والأجنبية، نعته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة يونسكو قائلة، "إنّ وفاة إيدير سفير الأغنية الأمازيغية ولغته الأمّ وثقافته العريقة، خسارة لنا جميعاً".
حزن الشعب الجزائري على رحيل سفير الأغنية الأمازيغية خاصة أنّه قبيل وفاته أعلن فخره بالحراك الجزائري قائلاً: "أحببت كلّ شيء في هذه المظاهرات، ذكاء الشباب وعزمهم على إبقائها سلمية، أشعر بأنّي عشت مرحلة سعادة مطلقة منذ 22 فبراير/شباط، مدتني بنفحات أوكسجين، وأنا مصاب بتليّف رئوي، وأعرف جيّداً عما أتكلم".