تابوهات قابلة للكسر.. عن قصص الفنانين “التوكسيك”

عربي بوست
تم النشر: 2021/08/10 الساعة 10:11 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/08/10 الساعة 10:11 بتوقيت غرينتش
وردة وبليغ (ملكية عامة)

كلنا تعرضنا لهذه المواقف؛ التعارض مع "تابوهات" غير قابلة للكسر، نقد أشياء يعدها الناس مقدسة وغير قابلة للنقد أو التقييم، نتأمل فيها ونقول "سبحان الله"، على حد قول التريند!

أشياء حين تصرح بها ينظر لك الآخرون باندهاش وبأفواه مفتوحة ومصحوبة بكلمات مثل: "لاء مش ممكن!" أو "بتهزااااري!"، وفي أوساط مثل الثقافة والفن ستجد أول ردود الأفعال هو نعتك بالجهل والسذاجة.

منذ أسبوعين شاهدت الفيلم الأيقوني "12 angry men" وهو فيلم أمريكي قديم من الخمسينات من سينما الأبيض والأسود يدور بالكامل في موقع تصوير واحد فقط وهو قاعة هيئة المحلفين بالمحكمة العليا، حيث يُطالب اثنا عشر رجلاً بالبقاء في غرفة مغلقة ومناقشة مصير شاب فقير اُتهم بقتل والده. يدور الفيلم بشكل رئيسي حول الصراع بين ما هو شخصي وما هو عام، بين الحقيقة والغضب الذي يعمي عن رؤيتها، تحفة سينمائية فنية فعلاً، هذا الفيلم حاولت مشاهدته قبل تلك المرة بفترة طويلة لكني لم أستطع ذلك وأغلقته بعد ثلاث دقائق فقط، وحين عدت لمشاهدته في تلك المرة التي أتحدث عنها، كنت مندهشة به، ساعتان كاملتان من الترقب والتركيز الحاد، لذلك علقت على صورة من الفيلم على صفحتي الشخصية قائلة بأنني متعجبة كيف أغلقته المرة الفائتة بدون أن أكمله! حينها جاءني تعليق من متابع يقول إنه فيلم لا يفهمه إلا ذو ذائقة فنية رفيعة وعقل واعٍ، أزعجني التعليق، لأني أكره القولبة، رغم أنني في هذه الحالة في فئة المصطفين وليس المُنتقدين، لكني أكره فعل القولبة في حد ذاته، خاصة فيما يخص الفن والقضايا العامة، لأني أرى أن كل الفن رفيع.

مثلاً، دعونا نأخذ هذا كمثال، منذ فترة قرأت كتاباً بعنوان "مذكرات عرَّاب الموسيقى: هاني شنودة"، الجزء الذي أدهشني في قصة حياته هو مدى المعارضة التي تلقاها في بدايته من سلاطين الغناء العربي وكباره، بسبب إدخاله الآلات الموسيقية الغربية في العزف العربي وتغييره لطريقة التلحين، في البداية رفضه الناس ثم اندهشوا به وتعلقوا بأغانٍ بعيدة جداً عما تعودوا سماعه، حدث ذلك حين لحن لفرقة المصريين، وعدوية، وعلى سبيل المثال كانت هناك أغنية زحمة التي احتفى بها الشارع المصري لزمن طويل.

في العصر الحالي هناك موجة المهرجانات وأغاني الراب وهي تلقى نفس التحدي الذي لقيه شنودة من قبل، بدعوى كونه فناً سفيهاً ومبتذلاً، لكن بتأمل كلمات وطريقة بناء هذه الأغنيات نجدها توصل المعنى فعلاً، تحاول أن تقول شيئاً، تحاول أن تعبر عن شيء، وصارت أشياء مثل الراب سيين مصب تركيز الصحفيين حتى إن ملفات صحفية كاملة صارت تبنى على أخبارها وحوارات مع مغنيها.

منذ سنتين تقريباً في نقاش مع الزملاء عن الكتابة، كنت لا زلت أخطو ببطء تجاه القراءة الاحترافية، ابتعت السمان والخريف وقرأتها وشعرت بسعادة من تمكني من الانتهاء منها رغم صعوبة السرد -بالنسبة لي وقتها- وكونها تدور في زمن لم أعشه مع قليل من التفصيل عنه، في النقاش، فاجأني أحد الكتاب بقوله: "أنا مبحبش سرد نجيب محفوظ، مبحبش أقرأ له".

ظللت أفكر حينها: هل هذا ممكن فعلاً؟! ألا يقرأ أحد أو لا يحب أحد كتابة نجيب محفوظ؟! رغم كل هؤلاء الذين يمجدون كتابته وينعتونه بالعبقرية ورغم كل هذه الكتب والإصدارات والتحليلات التي تحاول الحديث عنه وفك شفرته حتى هذا الوقت. كانت إجابته غريبة جداً بالنسبة لي.

كلنا كذلك سمعنا هذه الجملة: "لما تكبري هتحبيها، مفيش حد ما بيحبش أم كلثوم"، لا يمكنني أن أنكر هذا، فقد كبرت وأحببتها فعلاً، بل همت فيها حباً، وكتبت فيها غزلاً وأقصوصات كاملة من المحبة. لكن ماذا إن لم يحببها أحدٌ ما؟ أعني أنه كبر فعلاً، لكنه لم يحبها؟

تُرى، هل تغيير مفهوم الحب في عصرنا الحال عما سبق؟ يعني هل طريقة حبنا وفراقنا وتجاوزنا للعلاقات التالفة والمصطلحات التي نتحدث بها الآن هو هو نفس الحب الذي كان يملأ قلوب عشَّاق الستينات على سبيل المثال؟ أم كلثوم والقصبجي مثلاً؟

كان القصبجي هو أول من آمن بموهبة أم كلثوم، حين سمعها تنشد في مدح الرسول، وقرر أن يكون ملحناً لها، وهو أول من صنع لها تختاً شرقياً يرافقها في جميع حفلاتها، لحن لها نحو عشر أغانٍ، لكنها بعد ذلك تجاهلته، وانجذبت بشكل أكبر نحو ألحان السنباطي والموجي، فشعر القصبجي أن كرامته قد جُرحت، وقرر أن يترك التلحين إلى الأبد ويصبح عازف عود يجلس خلفها منذ ذلك الوقت وحتى وفاته المنية، نحر موهبته الفذة من أجل قصة حب من طرف واحد، فضحته مشاعر قلقه عليها من خلال جواباته التي كتبها لها في رحلة علاجها في الخارج.

حسناً، لنحاول نقل هذه التجربة إلى عصرنا الحالي، لو دخل شخص بحساب مزيف في مجموعة من مجموعات الفيسبوك المخصصة لطرح المشكلات، وقال إنه يحب فتاة وهي تعرف ذلك لكنها لا تبالي به، وتوافق على عمله عندها في الفرقة لأنه عازف موهوب، لكنه يعرف عن نفسه أنه صاحب موهبة فذة في التلحين، بماذا كان سيرد الناس؟! في الأغلب ستنقسم التعليقات بين سب هذه الفتاة ونعتها بالأنانية وانعدام الإحساس، وبين نصائح له بالابتعاد عنها وتخطيها والتركيز على موهبته لأنها علاقة "توكسيك" وأن عليه زيارة الطبيب النفسي إذا ما لم يستطع تخطيها وحده.

في عصرنا الحالي تراجع الحب الأفلاطوني وحل محله بشكل أكبر ما أحب أن أسميه "عقلَنة الأمور" وهناك الكثير من الأشخاص حتى الذي يهاجمون "رمنَسَة" الأشياء أي جعلها رومانسية وتحويل المعاناة إلى قصص حالمة، في زمننا هذا ستكون قصة حب القصبجي لـ"ثومة" هي قصة عادية ومكررة وإن تمت بشكلها الذي تمت عليه في الماضي سيتذكرها الناس بقصة حب الأحمق الذي ضحى تضحية غبية لأجل فتاة لا تستحق.

طريقة الحب تختلف كثيراً عما سبق، طريقة الحياة تختلف، ما يهم لم يعد يهم، لكننا مع ذلك نواصل الحفاظ على هالات مقدسة حول رموز بعينها، ونحول أصحابها إلى ملائكة ونلحق بهم صفات المصطَفين وهو ما يضرهم أكثر مما ينفعهم، لأن الخطأ والضعف حقوق بشرية لا يجوز لنا سلبها منهم.

قد لا يحب أحد صوت أم كلثوم فهي ليست قديسة أو نبية يجب علينا جميعاً اتباعها، وربما يتجنب السماع لها أحدٌ بناء على حياتها الشخصية ورؤيته لها، وقد يقول قائل بضرورة فصل الفن عن الفنان وهو ما أراه كلاماً فارغاً، لأنك إن استمتعت بأغنية شخص هناك بلاغات اعتداء جنسي ضده فأنت مخطئ في حق آخرين، وأن استمتعت بفيلم لفنان ينكر أطفاله ويرفض نسبهم فأنت كذلك تغتصب حق آخرين، لا ينفع ولا ينبغي فصل الفنان عن فنه.

ولا يصح وضع تابوهات مقدسة ووصف كل من لا يؤمن بها بالسذاجة أو الحمق أو انعدام الذوق، أنا لا تعنيني الرموز التي ذكرتها بشكل شخصي بقدر ما يعنيني التوقف عن تقديس الماضي وتزيينه لأنه لم يكن أبداً خالياً من الزلات، والتوقف عن مشاكسة محاولات الحاضر لأخذ وضعه، لأنه من الحمق إهدار الوقت في مثل هذه الصراعات بينما نحن نعرف سلفاً من التاريخ أنه سيأخذ وضعه "كده كده!".

الناس تحب أن تضيف السحر إلى أمور بعينها كي تجد حكايات حالمة لترديدها، الشبان هذه الأيام بحاجة إلى قصص إثبات أن هناك حباً حقيقياً فعلاً من كثرة الزيف الذي يعيشون فيه. حتى لو حدث هذا على حساب تزييف التاريخ ونشر الإشاعات لإضافة الرومانسية عليها، كما حدث في قصة حب بليغ حمدي ووردة التي يتغنى برومانسيتها وحميميتها الشبان وينشرون صورهم معاً في شغف ونشوة، بينما هي في حقيقتها علاقة "توكسيك" (سامة) أصلاً، بل إن لي صديقة تصف بليغ بأنه كان حبيب "أبيوزر"!

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مي قاسم
كاتبة مصرية
وُلدت عام 2000 في مدينة طنطا، أدرس بكلية الهندسة-قسم الاتصالات، صدرت لي رواية «لبلأ.. حكاية لا يبليها التكرار»، وأكتب في مجالات السينما والأدب والتراث الفني.
تحميل المزيد