الآنسة أمينة رزق أنهَتْ للتوِّ دورَها في عمل لها على مسرح الأوبرا، هدوء أنيق يتناسب مع أناقة القاعة وروقان الحضور، الجو عبارة عن جناح عصفور مبسوط.
ظلَّت تُرَتِّبُ في رأسها عدة أسئلة لحبيبها ومعشوقها الأوحد طوال حياتها؛ يوسف بك وهبي، كأني أراها يدور في رأسها أسطوانة الشيخ زكريا أحمد تصبُّ حلاوةً في سمعها وتدندن في مزاجها:
انت فاهم قلبي تاني يرق لك
أبداً يا روحي لو عملت المستحيل
يوسف بك بالبدلة الرمادية المُعطَّرة بعطر Tweed الذي أهداه لنفسه من بيت العطور الفرنسي Lentheric.. ابن الباشوات كان محباً للأنزحة الشيك، والتي تناسب أرستقراطيته، كان خارجاً من غرفته يُصَفِّر، تلعب في انبساطه أسطوانة الست منيرة المهدية:
يمامة حلوة ومنين أجيبها
طارت يا نينة عند صاحبه
رأته الآنسة أمينة، قلبها سُكِبَتْ على نبضِه سخونةٌ كَوَتْه، جرَتْ نحوه، ساعة كاملة تترجَّى كلامها الفارغَ الذي لا طائل منه ألَّا يخذلها بالفضح، وتاركةً قلبها يتجسس في عينيه محاولاً معرفةَ كيف يراها هو.
مجلة آخر ساعة لمَّا نقلت جزءاً من الحوار قالت إنها سألته أسئلة عجيبة وعشوائية، وليس بينها رابط غير يوسف وهبي نفسه، يعني طفولته، ذكرياته، أحلامه، حتى أوقفَها يوسف وهبي الذي كان يردُّ بمنتهى الرحابة والحب المقتبَسِ من رائحةِ عطره وأصالة نسبه قال لها:
– تسمحي لي أسألك أنا بقى سؤالين؟
فوافقَتْ ضاحكةً ومُحرَجة، فقال:
– ما هو رأيك في يوسف وهبي؟
– أستاذي.
– هل تُحبِّينه؟
– جدًا "ردَّت سريعاً، أسرع إجاباتها حسب وصف المجلة".
– هل تحلمين به في نومِك؟
– طوال الليل! "ضاحكةً خجلة".
أمينة كانت تعشق يوسف عشقاً أفلاطونياً، قالت عنه في حوار مع مفيد فوزي إنها كانت تراه إله الفن، وقالت جملة عذبة بتلقائية شديدة:
كنت لما أحلف أقول وحياة يوسف وهبي.
كل همِّها أن تراه سعيداً فقط، ورغم أن هذا يظهر كلاماً استهلاكياً روائياً، لكنه ظهر فعلاً في الواقع لمَّا استدعاها لغرفته.
زكريا أحمد (داير) في دخان سيجارة يوسف الماتوسيان، ويوسف يدندن معه:
أمَّا اليومين دول
مستحيل حبك يخيل
انتبه لها، وقَّف الجرامافون، ثم شغَّلَه مجدَّداً، متوترٌ وعَرَقُه مَرَقُه، وبدون أي تمهيد، وباستعجال رجلٍ مغرورٍ طلَّع له الحب لسانه، طلب منها أن تساعده.
زكريا أحمد وصل عند:
ليه يا قاسي تذل قلبي
وأنت عارف إني عبدك
انت ناسي كتر حبي
وإن روحي ملك يدك
يوسف وهبي طلب منها أن تساعده في توصيل جوابات غرام لسيدة متزوجة من أرستقراط القاهرة اسمها سعيدة منصور.
يدٌ خفية غطت قلب أمينة الألوان بكيسٍ أسود، الشيخ زكريا بيختم الوصلة:
وانت عالم إنه عاش العمر
من أجلك ذليل
تذل قلبه ليه!
أمينة ليس فقط وافقت، لقد قررت أن تتنكَّر -وهي مَنْ هي- في دور خادمة لتوصيل جوابات الغرام بينهما حتى لا يكتشف زوج السيدة الأمر، لكن زوج السيدة طلقها في النهاية وتزوجها يوسف وهبي.
لو أن هناكَ وصفاً لأمينة رزق في ليلة زفاف يوسف وهبي من سعيدة منصور، لن تجدَ إلَّا أنها كانت بنتاً ذات قلبٍ مليء بالقتلى.
بعد ذلك خلال مسيرة أمينة رزق تقدَّم لخطبتها شخص اسمه وهبي، وافقت تحت ضغط عائلتها، وتمت الخطبة، لكنها استغلت سفره للخارج وأرسلت له شبكته، وبعد 14 عاماً كاملة رجع وهبي وطلب خطبتها مجدَّداً، وتحت ضغط عائلي أكبر وافقت، وأخذ منها عقد القران ليضمن أنها لن تتراجع، وتم الزواج "الصوري" وطلقها بعد 11 يوماً فقط لمَّا وجدَ أنه لا فائدة، ولم يستطع أن يأخذ حقه الشرعي منها حتى. لم يستطع أحدٌ أن ينافس يوسف وهبي في قلب أمينة رزق!
أمينة رزق ماتت عزباء بعد حوالي خمسين سنة من ليلة المسرح، وما زالتْ منيرة المهدية تدندن في سمعها الولهان مُكمِلَةً دندنة يوسف في ليلةٍ ما أنيقةٍ من ليالي القاهرة القديمة:
شعرها أصفر حلو ومضفر
ماشية تتمخطر قلبي عشقها
طارت فى قصري
امبارح العصري
وصاحبها المصري طالع يجيبها
جم يخطبوها
مني وياخدوها
ويسجلوها في الحقانية
البلبل خدها وطار وياها
أصله يا نينة يعرف لغاها
يمامة حلوة ومنين أجيبها
طارت يا نينة وقلبي هواها
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.