فيلم “توك توك”.. توصيف فريد لواقع الحارة المصرية

عربي بوست
تم النشر: 2021/04/07 الساعة 10:14 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/04/07 الساعة 10:14 بتوقيت غرينتش
الملصق الرسمي لفيلم "توك توك"/ مواقع التواصل

الواقع المصري غنيّ بالقضايا الحياتية الجديرة بالنقاش، إلا أنه بسبب زخم الحياة وسرعتها تتيه منّا القضايا وتتشابك الطرق وتختلط الأفكار، ويعمل الوعي الجمعي فتتشابه كذلك طرق تناول الكتَّاب والمفكرين للقضايا، فتجد عملاً أدبياً واثنين وثلاثة أعمال تتناول نفس القضية، بنفس وجهة النظر وطريقة العرض، يندُر أن تجد من يعرض وجهة نظر جديدة في قضية معروفة، أو يقدم لك قضية قديمة بطريقة عرض مختلفة تتكامل فيها العناصر وتتضافر.

هذا ما رأيتُه في الفيلم المصري الروائي القصير "توك توك"، الذي عُرض لأول مرة في مصر وشمال إفريقيا في حفل افتتاح "مهرجان الإسكندرية للأفلام القصيرة".

فيلم "توك توك" مثّل مصر في أكثر من مهرجان دولي، وهو من إخراج وتصوير محمد خضر، ويشاركه في تأليفه السيناريست شريف عبدالهادي، ومن بطولة إلهام، التي تعد هذه هي أول مشاركة لها على شاشة السينما، وأشرف مهدي، ومحمد خميس، وندى أكرم، وعمر راشد، وماري جرجس.

يحكي الفيلم قصة رجل "أرزقي"، أي "على باب الله"، يعيش مع زوجته وطفليه في بيت في حي فقير. يبدأ الفيلم بمشهد يجلس فيه الزوج مع رجل على القهوة ليعقدا اتفاقاً لتهجير عدد من الرجال خارج مصر بأوراق غير رسمية عن طريق البحر، تتصل به زوجته لتخبره بأن والدتها مريضة وبحاجة إلى الذهاب إلى الطبيب، يُقتطع المشهد ثم يبدأ مشهد جديد داخل منزل الرجل وهو يحاور زوجته، متأففاً من حِمل والدتها، الذي لم يعد يطيق حمله، فتلوم عليه عدم إحساسه بها، وتؤنّبه على أن فقرهم راجع لعدم بحثه عن عمل، وجلوسه طوال الوقت لمشاهدة النساء الأجنبيات عبر شاشة الهاتف. تنتهي المشاحنة حين يقول لها بأن تجلس وترى كيف تُغازل النساء الأجنبيات أزواجهن كي تتعلم منهن، فتتركه وتذهب.

تتطور الأحداث ليقرر الرجل أن يهاجر مع الشبان، بعد أن كانت كل وظيفته أن يقنعهم بالسفر ويأخذ عمولة، لكنه يقرر بعد أن تأفف من حياته أن يهجر زوجته وأطفاله ويحاول البدء مرة أخرى في مكان جديد. تستيقظ الزوجة لتجد خطاباً يشرح لها فيه أسباب سفره، ويطلّقها ويتركها وشأنها كي تتكفل بأمر أسرتها.

فتضطر أن تشتري "توك توك" وتعمل عليه سائقة، لكنها لا تسلم من مضايقات السائقين الرجال، ورغبة أحدهم في أن يظفر بها، لجمالها، وكانتقام منها يقومون بإشعال النار في التوك التوك. ينتهي الفيلم بعبارة:

"أنا اسمي ولاء عبدالرحمن حسنين، عندي 34 سنة، اضطريت اشتري توك توك علشان أصرف على عيالي وأمي الغلبانة، ومضيت على نفسي 35 وصل أمانه، كل وصل بألف جنيه، مش عارفه هدفع اللي عليّا ازاي".

يناقش الفيلم قضية الفقر في حواري الواقع المصري، وصعوبات المعيشة، لكنه لا يغفل عن إكمال الكادر بعناصر حميمية طبيعية منتقاة بعناية من الحياة اليومية، فمشهد محادثة المرأة لأطفالها وتلقينهم الأدعية الدينية هو إشارة لجزء أصيل في الشخصية المصرية، وهو التمسك بالقناعات الدينية والموروث العقائدي، وحرصهم على تعليم الأطفال تعاليم الإسلام. خاصة هؤلاء الذين يعانون من الفقر يتمسكون بالدين ويتشبثون به أكثر وأكثر، الإيمان بأن هناك خالقاً يتكفل بهم، والركون إلى الثواب في الآخرة جزاء ما يلقونه من ظلم في الحياة اليومية هو القشة التي يتعلقون بها، حتى لا يفكروا في إنهاء حياتهم أو ينتهوا إلى الجنون.

ومشهد مغازلة الرجل لزوجه، وحديثه بسخرية واستلطاف عقب سخريته من معاناة والدتها، وتركه لها وذهابه هو مشهد يحدث بشكل متكرر بمختلف الأشكال في بعض البيوت المصرية، الرجل الذي يرى أنه لا واجب للمرأة سوى تدليله، والعمل على تحسين مزاجه فحسب، حتى ولو لم يكن يقوم هو بما عليه جراء هذا، كتوفير مصروفات البيت كحد أدنى.

يناقش الفيلم قضية الغارمات في الواقع المصري، التي تقودهن ظروفهن إلى عدم إمكانية توفير نفقات حياتهن اليومية، فيضطررن لكتابة إيصالات الأمانة التي تزج بهن في نهاية المطاف إلى السجن.

يعرض الفيلم كذلك صورة مكبرة للصراع القائم بين النساء اللواتي يضطررن للعمل في وظائف لا تتفق وهويتهن وطبيعة أرواحهن، كطرق أبواب مجالات قاسية وموحشة، مثل العمل على "توك توك"، ففي أحد مشاهد الفيلم تبكي ولاء بسبب معايرة أحد السائقين لها بأنها تخلت عن أنوثتها وأصبحت بلا مشاعر، وأصبحت تجلس على المقاهي البلدية، وتتعامل مع الرجال كأنها أسطى مثلهم، لتثور عليها طبيعتها الفطرية فتعود إلى المنزل وتخلع ملابس العمل وتكحل عينيها وتفك ربطة شعرها، وتبدأ بهز جسدها في تمايل ورقّة، مظهرة التجلي الأنثوي في حلته البهية. وهو نوع من الصراع تتعرض له الكثير من نساء اليوم في الحياة اليومية، بسبب عملهن تحت مظلة الرأسمالية والظروف التي تضطرهن للتعامل بعكس ما فُطرت عليه نفوسهن، ولا أشير هنا إلى عجز المرأة جسدياً عن تلبية احتياجات هذه الوظائف، ولكن أشير إلى الظروف المحيطة التي تجعل من الصعوبة العمل في مثل هذه الأشياء، حتى مع القدرة البدنية.

فيلم مكثف بشدة، إلا أنه متناغم وشديد الحساسية في اختيار الألفاظ، اللغة مدروسة بعناية ومناسبة تماماً لأهالي الحارات والأزقّة، طريقة السخرية والاستهزاء في ألسنة الرجال، والضعف والانكسار في صوت النساء، ثم نبرة الجبروت الذي يتجلى على السيدة المصرية حين تكتشف أنه لا مفر من تشمير السواعد والوقوف أمام المسؤولية المفروضة.

المشاعر التي يوصلها الفيلم على كثافتها، فإن كلاً منها يصل إليك بدرجة محسوبة حسب مدة المشهد. فيلم مكثف يلتقط صوراً من حياة جزء كبير من المصريين ومشاكلهم وطريقة تفكيرهم وتناولهم للأمور، الفقر الذي لا يمنع الحب، والتمسك بالدين، والسخرية والاستهزاء بالواقع، والتنكيل بالمرأة إذا دخلت ميدان الرجال، والمسؤولية، وقضية الغارمات.

اختيار الممثلين كذلك كان موفقاً جداً، وطريقة ردود أفعالهم طبيعية تجاه المواقف بلا إفراط أو تفريط، يمكن أن نقول إننا أمام فيلم يستحق المشاهدة.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مي قاسم
كاتبة مصرية
وُلدت عام 2000 في مدينة طنطا، أدرس بكلية الهندسة-قسم الاتصالات، صدرت لي رواية «لبلأ.. حكاية لا يبليها التكرار»، وأكتب في مجالات السينما والأدب والتراث الفني.
تحميل المزيد