أنطون سعادة، هل حقاً للإنسانِ نصيبٌ من اسمه؟ ما الذي فعله الأديبُ السياسيُّ العاشقُ إذن ليُستثنَى من المعادلة؟
الأديبُ الأريبُ الذي كتبَ (نشوءَ الأمم) كأنَّ ابن خلدون قد بُعثَ من جديدٍ ليعطي علم الاجتماعِ قبلةَ الحياةِ من جديد، وكتبَ (الإسلام في رسالتيْه: المسيحية والمحمدية) ليعلنَ للعالمِ المبادئ الدينية لحزبه الذي أنشأهَ وجلبَ عليه التعاسةَ كما جلبَ له المجد. أحبَّني أنطون كما أحبَّ سوريا، ومجَّدَني كما مجَّدَ رسالتَه السياسيةَ فيها، وعشقني كما عشقَ أدبَه وخطاهَ في دربه، لكنني كنتَ مزيجَ السعادةِ والكآبة في سكَّتِه؛ كما هي حياتُه بالكُلِّيَة.
أنا "إدفيك جريدني شيبوب"؛ العاطفةُ المبحوحةُ في أحبالِ أنطون النضالية، والآهةُ الفصيحةُ في كلِّ عشواءِ استغاثاتِه حتى المشنقة، وهذه أنا الآن، بعد سنواتٍ من مَسَرَحَةِ المعاناة.
"كيف أصف أنطون سعادة كما عرفتُه في صيف ١٩٣٧؟ إنه ذروة ما ترومُه الأميرات".
تضع إدفيك جريدني شيبوب جريديني قلمها الـ Police Ferrara ثم تنظر خلفها تتأكد من غياب ممرضتها المنزلية.
(ها أنا ذا يا أنطون؛ أخافُ ممرضتي بعد كل ما كان. لا تضحك! أرجوك اضحكْ يا عزيزي، كم أوحشني ذلك)
أخرَجَت قهوتها المعمولة على طريقة أنطون الكلاسيكية، غلَتْها مرتين، ثم أضافت نقطةً من الماء البارد، غطَّتْها دقيقةً وعرَّفَتْها على قصتها القديمة، الشيء الوحيد الذي أصبحت تفعله أسرع من ذي قبل هو المخالفات المتعلقة بصحتها، شربَت باستعجالٍ تخفي الجريمة، ضحكت لما أدركَتْ أنها بعد كل هذه الرحلة تخاف من زجرةِ مُمرضة، استأنَفَت:
"شخصية فَذَّة تشعُّ رجولةً وذكاء، وسطَ هالةٍ من المناقبية العالية والظرف، فهل يُعقل أن أُمعن في التدلُّل وقد فرطَ حبَّه في حضني دفعة واحدة؟ لذا، أجبتُ "بنَعَم".
كان هذا رد إدفيك على قول أنطون السياسي الأديب المتمرد الذي لم تخبطه امرأةٌ في قلبه قط:
– أنتِ الوحيدةُ التي أوْحَتْ لي بالزواج، ولم أكن قط أفكِّر!
الست وردة دائرة في الكاسيت جوارها تقول:
كأنك معايا
يا عشقي ومنايا
كأنك في همسي
في يومي وأمسي
في عمري وصبايا
ترشف مستعجلةً وهي تتذكر رسالة من الرسائل المكتوبة على ورق أصفر شفاف مطبوع في ظهره "الحزب السوري القومي الاجتماعي – مكتب الزعيم" يقول فيها أنطون:
– حبيبتي، هل يمكن أن يزولَ كلُ ما بيننا يوماً ما؟
تتكوَّر دمعة، تسمع خطوات الممرضة، تخفي القهوة وتدهس الدمعة، وتكمل وردة:
وقلبي في بُعدَك ملوش حد تاني
تسافر وتبعد وتاخدك بلاد
وأعيش ذكرياتك بأجمل مشاعري
ومهما تفرق ما بيننا البلاد.
تقول الممرضة مازحة:
– هدوءٌ مقلق يا سيدة إدفيك، مخالفةٌ جديدة؟
ترد إدفيك:
– ما العقابُ هذه المرة؟ افعلي أي شيءٍ لكن لا تحرميني ابتسامتك.
تضحك الممرضة كالعادة، تطبعُ على رأسها قبلة، ثم تخرجُ بعدما أدَّت وظيفةَ الابتسام.
كانت إدفيك تترجاها بعينيها ألا تفعل، لا تريدُ أن تعود للستين عاماً التي مَسْرَحَتْ المأساة، كيف سمحَتْ أن تُحرَق رسائلها إليه على يد أحد رفاقه بوصايةٍ منه؟ كان مثَلَهَ ومثَالَها الأوحد، تتحَسَّسُ خطاه في كلِّ شيءٍ حتى تفاصيل الخطابات، تبحث عم الورق الأصفرِ لا لأنه يجيبُ إليها ذكريات الماضي، بل لأنه يجيبُ إليها ذكرياتِ الماضي الذي كان فيه أنطون سعادة.
كان حرياً بجملتها المكتوبة -مثله- على الورق الأصفر القديم (هلمَّ نلاحقُ لقاءاتنا على المطلّ. هلم نراقب القادمين من بعيد) أن تعيشَ سنيناً أكثر.
كيف عاشَتْ إدفيك جريديني شيبوب كل هذه السنوات بعد إعدام أنطون سعادة!
جرَت في دماغها الستون عاماً، هروبها ولفُّها برسائلها في عواصم العالم، تبتسمُ حين تتذكر طرقَ إخفائها عن أعداءِ أنطون وأعدائها؛ مرةً في لفَّةٍ في صندوق زينتها، إخفائها -لاحقاً بعد حياتها الجديدة- في صندوق مجوهرات زوجة ابنها، أو تلك المرة التي بالغت فيها بالسرية وحفظتها في أحد مصارف سويسرا.
(آه يا أنطون.. كَم كان لطيفاً لو تقاسمنا كل هذا القلق الحزين معاً)
اتسعت ضحكتها -وهي تعبثُ بخصلةٍ فضيةٍ خلف أذنها-حين تذكَّرَت ذلك المؤتمر الغريب، حين قرَّرَت نشر الرسائل واكتشفَتْ فيها خطأً نحوياً؛ فأقامَتْ مؤتمراً من علماء اللغة لإمكانية إيجاد مخرج، وحين فشل الأمر قرَّرَتْ نشرَها كما هي، ضحكَتْ ضحكةً مقطوعةً بسعالٍ حين تذكَّرَتْ أنها انتصرَت لأنطون على اللغة.
(هل كَفَاكَ هذا يا أنطون؟ هل شفعَ ذلكَ لي أني لم أنتصر لكَ على المشنقة؟)
تبدأ وردة وصلة جديدة:
وحدي من غيرك أنا وحدي والعالم ضدي
وأنا وحدي خليك مكاني هتحس بإيه
وصوت أنطون في الخلفية:
"حبيبتي، هل يمكن أن يزولَ كلُ ما بيننا يوماً ما!"
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.