نذر صوته لقضايا إنسانية، واستطاع أن يصنع طيلة أربعة عقود ثورةً فنيةً شعارها الموسيقى أولاً، فمزج بين العاطفي والسياسي، وبين الأصالة والمعاصرة، فاكتسب شهرة عربية واسعة قلّ أن يكتسبها فنان لم يخُض غمار الأغنية التجارية.
لطفي بوشناق، ابن بلاد الياسمين، والشاهد على عصره، يتحدث في حوار مع "عربي بوست" عن أوضاع تونس الخضراء بعد الربيع العربي، وأحلام التونسيين الحالمين بالحرية والديمقراطية، وكيف استطاع مزيج الكلمة واللحن أن يصنع خطاباً دائماً، وموقفاً مُوحداً للشعوب.
بداية، نهنئك بانتخابِك رئيساً شرفياً لنقابة الموسيقيين التونسيين، ما الملفات التّي تراها آنية لتحسين واقع المشهد الفني؟
لا بد من الإقرار بأنّ المشهد الفنّي تضرر بشكل كبير في ظلّ انتشار وباء كورونا، وأدعو الله أنْ يرفع عنّا هذا الوباء الذي تسبب في توقف العالم بأسره ويشفي مرضانا ويرحم موتانا.
وبالعودة إلى السؤال، نعتبر اليوم أنه من بين الملفات التي تتطلب تدخلاً آنياً مساعدة الفنانين الذين تأثروا بشكل كبير جراء الجائحة، خاصة الفئة التّي تعتمد على الموسيقى كمصدر لرزقها، بالإضافة إلى تعزيز الوضعية القانونية والاجتماعية للفنان، لأنه من حقه أنْ يعيش بكرامة، والعمل على تنظيم القطاع لحمايته من الدخلاء، ووضع خطوط حمراء أمام كل السلوكيات التّي تُسيء إلى الساحة الفنّية والفنان، وهنا لا بدّ من التأكيد على انفتاح النقابة على جميع الأنماط الغنائية من "الراب، والراي، والشعبي، وغيرها من الألوان الموسيقية".
طرحت مؤخراً أغنية "يالخضرا" التي تحمل دلالات سياسية، ما تقييمك لما تعيشه تونس اليوم؟
سعيد بالنجاح الذي حققه العمل، وبمحبة الجمهور له، والإقبال عليه والإشادة به، والأغنية تحاكي كل ما عاشه ويعيشه بلدي تونس، فبلاد الياسمين تعيش اليوم ظروفاً صعبة جداً، بشهادة المختصين والإعلاميين.
قبل أيام حلت الذكرى العاشرة لثورة الياسمين، ماذا حققت تونس بعد مرور عقد عن ثورتها؟
تاريخ الثورات لا يمكن تقييده بعقد واحد، الهدم سهل لكن البناء صعب، السنوات منذ الربيع العربي للآن كانت صعبة، لكن لا يمكن أن نقول إن التغيير يُمكنُ أنْ يتحقق على جميع المستويات في عشر سنوات، فلا بد من المرور بهذه الفترة، والتاريخ يؤكد ذلك.
الحقيقة أننا نمر بفترة صعبة جداً والإصلاح يتطلب وقتاً، ولكن هذا لا يمنعنا من الاعتراف بأن لهذه الفترة أيضاً إيجابيات، لقد عرفنا معنى الحرية والديمقراطية، وأن نضع كل شخص في المكان الذي يستحقه، والثورة كشفت الحقائق وأعطت لكل منا حقه، حتى السياسيون الذين لم تكن لديهم الجرأة على الانسحاب انسحبوا، والشعب برهن على أنه قادر على إزاحة أي أحد كان.
كل ما أحدثته الثورة أنا مُتفائل به، بسلبياته وإيجابياته، ونحن نحاول أن نُرمم ونبني لمستقبل أفضل في أقرب وقت، وثقتي كبيرة في شعبي، وتونس قوية برجالها.
كيف تقيّم الأوضاع التّي تعيشها الأمة العربية اليوم؟
العالم العربي في حاجة ماسّة إلى التوحد، مرّت سنوات كثيرة ونحن نتحدث عن الوحدة العربية، لكن لم نرَ شيئاً على أرض الواقع، أتمنى أنْ تتوقف هذه الحروب في الدول العربية، ويتوقف سفك الدماء. كما قلت في أغنية باختصار "كلمة باختصار، الكلمة لأصحاب القرار، يخليونا نعيش، يكفي، ملينا دمار، ما يهم لونك ولا دينك ولا يسارك ولا يمينك، خلي كل ناس إخوة بالتسامح والحوار، هي كلمة باختصار لأصحاب القرار". أتمنى أنْ تتوحد الصفوف ويبتعد أصحاب القرار عن الفتنة، وأن يكون مستقبل الأمة العربية أفضل من سابقه.
دائماً تسعى أن تكون ذاكرة الحقبة الزمنية التّي نعيشها، هل تعتقد أنّ التوثيق جزء من مسؤوليتك كفنان؟
الفن رسالة سامية، وأنا أسعى دائماً أنْ أكون شاهداً على العصر وامتداداً للتاريخ ومُتعايشاً مع الواقع ومستشرفاً للمستقبل.
هل ما زال للأغنية الهادفة جمهور وسط جيل الألفية؟
أولاً وقبل كل شيء، الأغنية الهادفة إما أن تكون أو لا تكون، فالمعنى هو محددها الأول، فمهما اختلفت مواضيعها من أغنية وطنية أو سياسية أو روحية، ستظل نابعة من القلب وستصل إلى القلب.
غنيّت لجمهور في مخلف بقاع العالم، كيف يختلف الجمهور الغربي عن العربي في التفاعل مع فنّك؟
لا أرى أنّ هناك اختلافاً، الجمهور هو نفسه، لأنه يتفاعل معك بإحساسك وصدقك فيما تقدّمه من جمل موسيقية، بالرغم من عدم استيعابه للمضمون فهو يعبر عن حبه ويتفاعل معك بأحاسيسه.
هل تؤمن بأنّ الفن وسيلة تواصل بين الشعوب العربية؟
الفن لغة عالمية ليس لها حدود، والعالم مُتفق على أن يكتب بنفس الطريقة، نسمع لإيديت بياف، وبوب مارلي أو باجدوب وصباح فخري وأم كلثوم، كل واحد منهم نتفاعل معه ونحس به، يمكن ألا أفهم اللغة الباكستانية، لكن عند الاستماع إلى الفنان رشيد خان أعيش في ملكوت آخر، الفن يُوحد الشعوب بلا حدود، يكفي أنْ يكون هذا الفن صادقاً ونابعاً من القلب ويحمل بصمة وخصوصية.
بعد هذه المسيرة الفنّية الغنية، هل هناك مواضيع تعتقد أنك لم تتعاطَ معها فنيّاً بعد؟
الأوضاع في تغيُّر دائم، هناك مجموعة من الأحداث اليومية التّي لا بد أن أكون شاهداً عليها سلبية كانت أم إيجابية، لكي أكون مرآةً لكل ما يحدث في هذه الحقبة الزمنية التّي أعيشها، وشاهداً على عصري بكلمتي ومواقفي وفنّي، وناطقاً باسم هذا الشعب الذي أنتمي إليه، وباسم الإنسانية جمعاء.