تعتبر السينما والتلفزيون من أخطر القوى الناعمة التي تستثمرها القوى والدول الكبرى لإعادة تشكيل الوعي وتسويق روايتها بغرض خدمة أجنداتها. وقد لعب الإعلام الدور الأكبر في خداع المتلقي العربي، منذ تغييب الحقائق على مدار العقود الماضية، إلى حين تسويق خطوات التطبيع وتوصيفها كمصلحة عليا وأن العرب من مصلحتهم العيش في كنف إسرائيل، وصولاً إلى استخدام السينما لتصفية الخصوم السياسيين مثل سينما السادات تجاه حقبة عبدالناصر، أو السينما المباركية في مصر تجاه الحركات الإسلامية.
وانطلاقاً من ذلك، برزت ضرورة وجود إعلام موازٍ للإعلام العربي الرسمي الذي يدين بدين الحاكم، وتلفزيون يصور الحقائق كما هي من دون مبالغة أو تزييف. وقد عاشت الأمة العربية مرحلة مظلمة غاب عنها الإبداع وإذا حضر غابت الاستقلالية، إلى أن ظهر على الساحة العربية مصطفى العقاد، الذي وصل بإبداعه إلى العالمية بأعماله التي تنقل التاريخ الإسلامي والموروث العربي في إطار غير مألوف، وصورة ناصعة عكست ما غيَّبته شاشة الحكام فترات طويلة، وهو ما جلب إليه ملايين المتابعين.
حاتم على خطى العقاد
منذ وفاة العقاد في انفجارات عمّان الإرهابية، ترك فراغاً كبيراً خلفه، حتى جاء المخرج السوري حاتم علي ليملأ الحيز الذي تركه العقاد في الشاشة العربية بأعمالٍ أجمع كل من رثاه على أنها ستبقى خالدة، ولكن ما الذي ميّز أعمال علي دو غيره؟
لقد درس حاتم علي القصة التاريخية ورواية الحاضر بالواقعية بعيداً عن خيال السينما ومونولوج السيناريوهات الرتيب الجاف، وقد قدَّم علي أعماله بقالب جدّي ينظر إلى القضايا العربية والتاريخية والاجتماعية بعين من يحاول إيجاد حل للمشكلة وليس فقط نقل المعضلة صماء كما نراه في كثير من الأعمال الأخرى. ولو سلطنا الضوء على أشهر أعماله مثل "الزير السالم"، فسوف نرى حواراً يمزج بين دقة الكلمات ونسقها وعمق معانيها، وجمالية الصورة وإبداع الحركة.
وفي ما يتعلق بالعمل الآخر "التغريبة الفلسطينية"، فإن فلسفة النقاش المطول بين الشخصيات قدمته كعمل جديد أرخى عنه ستائر الصورة النمطية في الأعمال التي تحكي الرواية الفلسطينية. فقد ناقش الجزء الأهم من الصراع اللاأدري واللاإرادي؛ أنه الواقع والوهم للقضية، فالوهم هو محاولة التعلق بحبال الخذلان من الدول العربية وربط مصير الأرض بمصير صراع الطبقات أو التفسير الخاطئ للنصوص الدينية والروايات غير المنقولة إلا عن أصحابها، فتبدد الأمل وقبول سياسة "الترانسفير" ونهب الأراضي والاستيطان.
أما الواقع الذي رسمه حاتم علي، فهو العمل المستمر والبُعد عن الخلافات والنظر نحو الحدود، ليس الحدود التي رسمها العدو وقبلها السياسيون، ولكن حدود فلسطين التاريخية وحدود قدرات الإنسان العربي الذي أبدع رغم ما لقيه ويلقاه. إن التغريبة التي عاشها المخرج بتهجره صغيراً من الجولان ثم تهجيره مرة أخرى من سوريا قسراً، نقلها إلى الشاشة واقعاً أنار الطريق أمام جيل كامل، وُلد في خيبات الحروب وعاش مآسي التطبيع مع العدو الأول للعرب، مبتعداً عن اللطم وسب الدهر.
قضايا حاتم الاجتماعية
وعلى صعيد أعمال المخرج حاتم علي، ذات البعد الاجتماعي، فقد تطرقت إلى قضايا تنخر المجتمع العربي من قبيل الفساد السياسي أو تفتُّت نسيجه القومي على حساب العادات والتقاليد المصطنعة والافتخار بالنسب والعشيرة والمال، وكلها تقف حاجزاً أمام إزاحة اللثام عن الانخراط في حوار الحضارات وتؤدي إلى التقوقع على الذات. إضافة إلى ما أعطاه الفنان السوري، فيحسب له أيضاً تقديم أعماله في قالب محافظ وسليم لغوياً ويحوي لمسة الإبداع الفني؛ فقد اختار الحفاظ على الصورة الأصيلة الأخلاقية للإنسان العربي، وابتعد عن البذاءة والتشهير، ورجّح الخطاب العقلاني المليء بالقيم على الخطاب الحماسي الفارغ.
إن رحيل قامةٍ هي الأبرز في تاريخ ساحة الإخراج العربية، بعد مصطفى العقاد، سيترك بالتأكيد أثراً يصعب ردمه على المستوى المنظور على الأقل، فما مصير الدراما العربية بعد رحيل حاتم علي؟
الإجابة تتطلب الوقوف عند الخط السياسي الليبرالي الذي تسلكه معظم الدول العربية في الوقت الراهن، ومحاولة التنصل من الموروث العربي القومي والإسلامي، فهذا يجعلنا لا نتفاءل بما بعد مرحلة حاتم علي. فالنهج يقوم على تمويل الأعمال التي تقوم بتشويه الخصوم السياسيين؛ فليس سراً أن العالم العربي محكوم بتوجهات حكامه ولا مكان فيه للعمل المؤسسي المستقل، والإعلام والسينما الحرة، أبرز ما يقع تحت نظر ويد السياسيين، كما أن الاستثمار يتجه لإنتاج الأعمال المُدرة للأرباح، بعيداً عن أي اعتبارات مجتمعية أو تاريخية، فغلب الدولار على الرسالة.
ما مصير الدراما العربية؟
إن وفاة الفنان والمخرج العربي السوري حاتم علي ستفتح مجالاً لاستمرار الأعمال الهابطة فنياً وثقافياً وأخلاقياً، والأخطر هو غياب من يتصدى لأعمال الترويج للتطبيع مع إسرائيل، وإن الفراغ الذي تركه عليه قد يدفعنا إلى النظر من زاوية البحث عن موهبة جديدة، إلا أن الواقع يحكي أن الفن لم يعد فقط إبداع تصويب الكاميرا وموهبة الإلقاء والخطابة، وإنما هو تجارة، يتوقف مدى نجاح العمل والأشخاص على كم ونوعية الدعم الذي يتلقاه.
كذلك، فإن ما حمله حاتم علي يجعلنا نقف مع أنفسنا والنظر إلى واقع السكوت عن سينما الأغراب التي لا تمثلنا بمضمونها وأفكارها، فليس من مجتمعنا التضامن مع مجرمي المخدرات أو التعاطف مع راقصة أو الصراخ في الوالدين أو الاستقواء على الضعيف وتبرير كل ذلك وهو ما تنقله السينما الحديثة، إن حالة الهزال تجاه رفض هذه الأعمال وحجم القبول الذي تتلقاه من المشاهد العربي، يفتح سؤالاً يريد إجابة فورية: أين أصبحنا مع حاتم علي وإلى أين سنصل من دونه؟
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.