مرحبا بكم، نحن لسنا بصدد إجراء محاكمة أخلاقية ولا نقد فني ولا حقد طبقي، على الفنانين المشهورين، ولا نحتكر الحب وقصصه لنا وحدنا، ولا نقزّم من قصص حبهم أو نجعلها مادة للسخرية، وإنما نحن يا سادة في مقامٍ أرفع من ذلك، في نقطةٍ أهم من أغاني الفنانين وكليباتهم. نحن في مقامٍ كريم حيث نضع نقطة نظام، ونفكر معاً، ما الذي يجري بالضبط؟
مع كل صورةٍ جديدة لفنان وعشيقته، مع كل ألبوم لفنانة وحبيبها، مع كل أغنية يهديها هذا لتلك، مع كل كليب يجمع بين نجمين، نجد الكثير من العيون متوهجة وموجهة نحو قصة الحب الأفلاطونية الجديدة، روميو وجولييت آخران أُضيفا إلى قائمة آلهة الحب عند المصريين الجدد، لكنهم ليسوا من خيالٍ كما عند الإغريقيين القدماء، وإنما من لحمٍ ودمٍ مثلنا، ومال لا يملكه أمثالنا، وشهرة ذائعة من أقصى الأرض إلى أقصاها.
وتقول الفتاة: "أريد مثل هذا"، ويكتب مديرو الصفحات المراهقون: "هو عمل لها أغنية أنتِ حبيبك عمل لك إيه؟"، وتندب الفتاة حظها على رجلها الذي ليس بوسامة الفنان، وتنصب سرادق عزاء لحبها الذي لا تتخلله أغانٍ صنعت لها خصيصاً، ولا تُخطَف فيه على طائرة خاصة لجزيرة ساحلية يقيمان فيها أسبوعاً وحدهما، ولا تتصدر صورتها مواقع التواصل، واقفةً في موضعٍ أعلى من الجميع، يراقبونها ويقولون "يا بختها".
والفتاة لا، لا تريد مال الفنان ولا وسامته ولا سلطته ولا مشاهداته على يوتيوب، وإنما تريد اهتمامه بالتأكيد، بعض الفتيات اختلفن في ذلك وقلن: "أنا غيرانة منها لأن الفنان باسها"، وذلك مستوى آخر لا يجب أن نتحدث عنه، لأن مقام المقال أرفع من القيل والقال. المهم تريد الفتاة -الأولَى- الاهتمام الخالص، والإخلاص الجميل، والحظ الوافر من الحب الخام، الذي تراه في عين الفنان لحبيبته، ولأنها بالتأكيد قارئة عيون، أقسمت أن "عينه فيها كلام كتير"، و"وشه منور من الحب"، ونحن لا نستكثر على الفنان أن تقول عينه كلاماً كثيراً على حد تعبير الفتاة الموقرة، ولا أن يضيء وجهه من كثرة الحب متجاهلين دور الكوافير البارع في استخدام الفاونديشن والهاي لايت، وإنما نشفق على الفتاة من إرهاق ذهنها بهذا كله، بقراءة أشياء في عينه ورؤية أشياء في وجهه، وندعوها لترى قصصاً يمكنها أن تحمل كماً أكبر من الإبهار إن كانت تتقن قراءة العيون، كما تقول.
فإنني وبشكل شخصي، أعرف عيوناً لم أرها صافيةً يوماً، كلما رأيتها وجدتها حمراء كالدم، لأن الشاب -غير الفنان- كان يواصل الليل بالنهار، عاملاً في أكثر من مكان، ليدبر ثمن دبلة الخطوبة للفتاة التي اختارها الله له، يحكي لي، ويقول والله لو استطعت لأهديتها القمر، لكنني أهديها كل ما أملكه وفي استطاعتي، أهديها عمري، وساعات راحتي. ولم ترُق عينه ولم أرها صافيةً إلا بدايةً من يوم عرسه، فأدركت أن حمرتها من البداية لم تكن فقط من فعل العمل والسهر، وإنما من بكاءٍ كف عنه حين وجدها بين يديه.
وأعرف رجالاً آخرين، لم ينزلوا على ركَبهم ولم يقدموا خاتم ألماس على منديل من حرير في علبة حمراء ويقولوا "تتجوزيني؟"، وإنما كتموا أشواقهم في أجوافهم، وادخروا كل ما يستطيعون، حتى يرفعوا رؤوسهم وهم ذاهبون لمقابلة أهالي عرائسهم، والرجل منهم يطلب الفتاة وعيونه ملآنة لا فارغة، يستعد لدفع كل شيء حتى يشبك يده في يدها، بما اتفق عليه العُرف والشرع.
وأعرف شاباً حدثني قبل أيام، وقد اشترى براتبه كله علبة شكولاتة أنيقة، وقميصاً وبنطالاً، لتكون حلته وهو ذاهب لطلب الفتاة التي أعجبته، وكان كتلة من توتر، يرجو ويدعو، يأمل ويخاف، يوصي الجميع بالدعاء، لأنه رجل متفوق، وإنسان مجتهد، وشاب حديث التخرج، يعمل براتبٍ يكفي ادخاره لفتح بيت صغير، وتكفي رجولته جداً لتحمل مسؤولية امرأة في رقبته، يرعاها ويصونها، لكنه ليس الفنان فلان الذي يشفع له اسمه وجسمه، وإنما هو ذاهبٌ فرداً، لا يملك إلا الأجوبة التي سيقولها حين يسأله والد الفتاة عن كل شيء.
ولا أنكر أن من الشباب مَن يخدع ويخلع، من يهرب من المواجهة، وهذا انعدام مروءة، ولكن لا يجب أن ينكر أحد علاقات الفنانين وما فيها من مصائب سوداء أيضاً، لكن الفتاة نفسها التي لا تشفع للشاب ولا تعذره -وهو حقها تماماً- تتحول إلى قديسة تغفر كل شيء، للفنان، الذي ربما دهس خلفه ألف فتاةٍ مثلها، وربما رمى زوجة تزوجها في السر، وربما أنكر أطفاله الذين من ظهره، لكنه فنان، وفنه يشفع له عندها.
وأعرف قصص حب أخرى، لم يعرف بها إلا أطرافها، أعرف من صبروا على الخِطبة سنوات طويلة، ومن انتظروا أمام الأسلاك الشائكة عمراً كاملاً، ومن أنفقوا حياتهم أمام بوابات السجون ينتظرون أحبابهم، ومَن ما زالت واقفةً أمام القضبان على عهدها مع الذي يقبع خلفه وبينهما ألف حاجز وحاجز، ومَن سافر وهاجر وكافح وشرب الغربة مرةً بلا قطعة سكر واحدة ليجلب الرزق حتى يُسعد زوجته وعياله، ومَن اعتاد السير لمسافاتٍ طويلة حتى يوفر ثمن مواصلةٍ يدخره ليشتري بدلة العُرس، ومَن ما زال مديناً حتى الآن ويسدد من عمره أقساطاً وعلى قلبه "زي العسل"، فداءً للتي يحبها. ونحن هنا لا نحول الحب لقيمة مادية، وإنما نستهزئ بالمادة مقابل الحب الحقيقي.
فلمَ الانبهار يا حضرات؟ وبمن تنبهرون؟ حق المشهورين أن يحبوا مثل ملايين المغمورين، وحقهم أن يسعدوا، وحقهم أن يبنوا قصوراً لأحبابهم، ولكن ليس من حقهم أن نأخذ المشهد بسطحيةٍ كما هو في مقطع من خمس دقائق، لنصورهم آلهة للحب، ونصنع حولهم هالات، ونتخذ من قصصهم مثالاً لقصصنا كأنها قصَص الأنبياء، ونقول إما أن يفعل مثلما فعل فلانٌ وإلا فلن نحب، وليذهب المسكين المكافح إلى الجحيم ما دام لن يغني لي في ألبوم، وما دام لن يقول لي قصيدة أمام مليون مستمع، وما دام لن يجلب لي قطعة حقيقية من القمر.
يا حضرات العيون الفارغة، إن كان الحب مقروناً بالتضحية، فلن يكون في الأرض أولى من أحبَتكم لتنبهروا بهم، ولو كان الحب مقروناً بالتحمل، فلن تُصنَع تماثيل في هذه البلاد إلا للأوفياء الذين طلبوا أياديكم بكل ما يملكون، ولو كان الحب مقروناً بالمروءة والرجولة، فلن يتصدر عناوين قصصه إلا رجالكم، ولو كان الحب مقروناً -يا رجال- بالجمال الروحي كما تدّعون، فلن يفوز به إلا الحلوات اللواتي بحببنكم وتحبونهن، ولو كان الحب مقروناً بالصبر، فلن تجدوا امرأة في الدنيا أحقّ بالحكاية عن الحب والصبر الجميل، أكثر من نسائكم، ولو كان الحب مقروناً بالجمال الطبيعي دون مساحيق، فلن تجدوا إلا الوجوه الذي تقبلون خدودها كل يوم على اختلاف أحوالها.
يا سادة، ويا سيدات، متى صار التلفاز مضرباً للأمثال في حياتنا؟ مَن قال إن هذه الوجوه التي أجرت ألف عميلة تجميل تستطيع أن تخطفكم من الوجوه التي أحبتكم كما أنتم وأحببتموها كما هي؟ كيف عرفنا أن هذه القصص صادقة للغاية كما تظهر، دون أن تشوبها شائبة؟ وأين سنجد حباً أفلاطونياً بلا مشكلات؟ في التلفاز ومواقع التواصل، لأن هذه القصص عبارة عن حلقة من ثلاثين دقيقة، أو أغنية من خمس دقائق، أو منشور من عشرين سطراً، أما القصص الحقيقية، التي بها مشكلات طبيعية تزيد من حلاوتها وحبكتها، فهي التي تجلس بجواركم بينما تشاهدون الآخرين فلا ترونها، ولو أغمضتم عيونكم عن التلفاز وفتحتم للذين بجانبكم آذانكم، فإنكم ستجدون قصصاً أولى كثيراً بالانبهار.
ويا سادة، يا سيدات، يا حضرات، اذهبوا فاسألوا أهليكم عن قصص حبهم، ستعرفون حينها كيف كان الناس كلهم أبطالاً، كيف كان الرجال شعراء وإن لم يقولوا بيتاً واحداً، ومطربين وإن لم يغنوا مقطعاً واحداً، وخياليين وإن كان كل ذلك من الواقع، وكيف كانت السيدة لا يملأ عينها إلا زوجها، وكيف كانت لا ترى غيره أحداً، وكيف كانت تقول "ضفرك بالدنيا" وهي تعني ذلك بالحرف الواحد، فتصغر جميع الصور في عينها مقابل الحقيقة الماثلة أمامها كل ساعة، وهي أن حبيبها "يسد عين الشمس"، ويرى الرجل أن حبيبته تقول للقمر "قوم وأنا أقعد مكانك".
كانوا صادقين، يكفيهم أن يعرف صدقهم الذين على الجهة الأخرى من القصة، فيبنون بيوتاً من الأمان والإيمان، لا بيوتاً مبنية على عدد المشاهدات، جدرانها من زجاج شفاف يفضح كل ما يحويه، ومشاعر ساكنيها -كأجسامهم- من سِليكون.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.