نجم الكوميديا الأمريكي الذي انتحر في عام 2014 بشنق نفسه بحزام بنطاله، بعد فشله في الانتحار عن طريق قطع شرايين يده اليسرى، بعدما عانی قبل وفاته من الاكتئاب والشلل الرعاش!
حقق نجاحات باهرة في السينما، عرف بأنه صاحب حسّ فكاهي وموهبة فنية حقيقية، حاز جائزة الأوسكار في عام 1997 عن فيلم "غود ويل هانتينغ"، وترشح لجائزة "غولدن غلوب" 12 مرة، وفاز بها 6 مرات، وحصل على جائزة "الإيمي" مرتين، وجائزة "غرامي" 5 مرات. حاز الكثير من الجوائز والنجاحات والكثير من الحب من المحيطين به ومن زوجته، ولكنه عانى واضطر للدخول لمصحات التأهيل النفسي، لمعاناته من اكتئاب حاد ومصحات علاج الإدمان بسبب إفراطه في التدخين وشرب الكحول. كما عانی من مرض باركنسون "شلل الرعاش"، بالإضافة إلى نوع من أنواع الخرف يسمى داء جسيمات ليوي.
إنه الراحل روبن ويليامز.
إرهابيون في دماغي
تحكي سوزان شنايدر ويليامز، زوجته، موضحة معاناة زوجها في مقال "الإرهابي داخل عقل زوجي".
تقول تلك قصة شخصية تراجيدية تفطر القلب، لكني موقنةٌ بأن مشاركتكم هذه المعلومات ستجعلكم تُحدِثون فرقاً في حياة أناس آخرين.
كما تعرفون، كان زوجي روبن وليامز يُعاني مرضاً قاتلاً لا يعرفه الكثيرون يُدعى "داء جسيمات ليوي". مات زوجي منتحراً في عام 2014، بعد صراع شديد، ومُربِك، وقصير نسبياً مع ذلك المرض وأعراضه. لم يكُن روبن ويليامز وحده في تجربة عصيبة مع مرضٍ عصبي. مليون ونصف المليون إنسان في الولايات المتحدة الأمريكية فحسب يعانون معاناة زوجي نفسها الآن.
لم يكُن روبن الوحيد المصاب بذاك المرض، لكن حالته كانت مُتطرفة. لم أكُن أعرف أن "داء جسيمات ليوي" هو ما أخذ حياته حتى صدر تقرير الطبيب الشرعي بعد ثلاثة أشهر من وفاته. كل الأطباء الأربعة الذين التقيتهم بعد ذلك، والذين راجعوا سجلاته الطبية أجمعوا على أن حالته كانت واحدة من أسوأ الحالات المرضية التي شاهدوها. كان روبن قد خسر حوالي 40% من الخلايا العصبية المُفرزة للدوبامين، ولم تنجُ أي من خلاياه العصبية تقريباً من "جسيمات ليوي"، في الدماغ بأكمله وجذع الدماغ.
كانت روح روبن أكبر من الحياة، ولا تزال، لكنها كانت تعيش داخل جسد رجل عادي يملك دماغاً بشرياً عادياً، فقط من قبيل المصادفة كان روبن هو الإنسان الموعود بتأكيد إحصائية أن "واحداً من كل ستة أشخاص يصابون بأمراض الدماغ"، كان هو ذاك الواحد.
لم يجعل "داء جسيمات ليوي" سوزان تخسر زوجها فحسب، بل جعلها تخسر صديقها الأثير. كان روبن بالنسبة لها ملاذاً آمناً يملأه حب غير مشروط لطالما كانت تتوق إليه. في سبعة أعوام قضياها معاً كانا يتشاركان الآمال والمخاوف، كانا مرساة الآخر وسِحره، أي ذاك الشعور العجيب بالرسوخ والسمو معاً، الذي يملأ كلٌّ منهما في حضرة الآخر.
تقول سوزان: "كنا نناقش أفراحنا وانتصاراتنا، ومخاوفنا ونقائصنا، والأمور التي تُقلقنا، كنا نتغلب على كل العقبات التي وضعتها الحياة في طريقنا، سواء أمام كل منا وحيداً أو أمامنا معاً، بطريقة أو بأخرى، فقط لأننا كنا معاً.
وحينما بدأ "داء ليوي" في إظهار أعراضه لنا، كان هذا الأساس من الصداقة والحب هو ذخيرتنا".
بدأت الألوان تتغير ويصير الهواء بارداً، في أواخر شهر أكتوبر/تشرين الأول من عام 2013، كان روبن تحت رعاية أطبائه، يُعاني من أعراض تبدو غير ذات صلة ببعضها: إمساك، وصعوبة في التبول، وحموضة، وأرق، وضعف حاسة الشم، والكثير من التوتر. وكان لديه أيضاً ارتعاش خفيف في يده اليسرى يأتي ويذهب. في ذلك الوقت كان الأطباء يعزون الارتعاش لإصابة سابقة في الكتف، وبدأ روبن يشعر باضطراب في الأمعاء، تصاعد شعوره بالخوف والقلق إلى درجة مُفزعة، كانت تتساءل سوزان سراً، هل زوجي مصاب بوسواس المرض؟ لم تكتشف أن الارتفاع المفاجئ وطويل الأمد في الخوف والقلق يمكن أن يكون مؤشراً مبكراً على "داء جسيمات ليوي" إلا بعد أن فارقنا روبن.
تم اختبار إصابته بالتهاب الرتج، وجاءت نتائج التحاليل سلبية. ومثل بقية الأعراض التي تلت ذلك يبدو أنها تأتي وتذهب في أوقات عشوائية. بعض الأعراض كانت أكثر حضوراً من غيرها، ولكن هذه الأعراض زادت وتيرتها واشتدت على مدى الأشهر الـ10 التي تَلَت.
ألِفا مشكلات البارانويا، والأوهام، والأرق، والذاكرة، وارتفاع مستوى الكورتيزول، فقط على سبيل المثال لا الحصر. العلاج النفسي والمساعدة الطبية الأخرى أصبحت طريقهم في محاولة التحكم في تلك الحالات التي تبدو بلا رابط.
كان روبن يفقد عقله، وكان مدركاً لذلك. هل يمكنكم تصوُّر الألم الذي شعر به متلمساً كيانه وهو يتفكَّك؟ هل يُمكنكم تصوُّر أنه لم يكُن يعرف اسم خصمه، ولم يفهمه؟ لم يكُن باستطاعة أحد أن يواجه ذلك، ولا حتى هو؛ لا ذكاء ولا حب كان يُمكن أن يواجه ذلك مهما كان عظيماً.
حاصرت سوزان ظلمات الجهل بما يحدث لزوجها، عاجزة ومُجمَّدة. هل كان مصدراً واحداً للألم، إرهابي واحد، أم كان عصابة من أمراض تحالفت عليه؟
كان يقول دائماً: "أريد فقط أن أُعيد تشغيل عقلي". كانت مقابلات الأطباء، والتحاليل، وجلسات العلاج النفسي تبقينا في حركة دائمة. تحاليل دم لا تُحصى، وتحاليل بول، بالإضافة إلى قياس مستويات الكورتيزول والغدد الليمفاوية. أجري له فحص للدماغ، بحثاً عن ورم محتمل على غدته النخامية، وأُعيد فحص قلبه مرة بعد مرة. وجاءت كل النتائج سلبية مرةً أخرى، فيما عدا مستويات الكورتيزول المرتفعة. في يوم الـ28 من مايو (أيار)، تم تشخيص مرض روبن بالشلل الرعاش (باركنسون).
لقد حصلنا على إجابة، كان قلبي مُفعماً بالأمل، لكني بطريقة ما عرفت أن روبن لم يكُن يُصدق ذلك.
تروي سوزان: "عندما كنا في مكتب طبيب الأعصاب لنعرف ما يعنيه ذلك التشخيص بالضبط، وجد روبن فرصةً لطرح بعض الأسئلة المُلِحَّة: "هل لدي مرض الزهايمر؟ خرف الشيخوخة؟ هل أنا مُصاب بالفصام؟". كانت الإجابات التي تلقيناها هي أفضل ما يمكن الحصول عليه: "كلا، كلا، وكلا". لم تكن هناك علامات على هذه الأمراض. ومن الواضح بالنسبة لي الآن أنه كان، على الأرجح، يُبقي عمق الأعراض التي كان يشعر بها سراً.
واصل روبن فعل كل الأمور الصحيحة: العلاج النفسي، والعلاج الجسدي، وركوب الدراجة، والتمرينات الرياضية مع مدربه. استخدم كافة المهارات التي تعلَّمها وأتقنها في منتجع "دان أندرسون" في ولاية مينيسوتا، مثل البرنامج المُكوَّن من 12 خطوة، ويشمل: عملاً وتأملاً ويوجا. ذهبنا إلى طبيب متخصص في جامعة ستانفورد علَّمه تقنيات التنويم المغناطيسي الذاتي لتهدئة المخاوف غير المنطقية والقلق، لم يستطع أي شيء تخفيف أعراضه لمدة طويلة.
طوال كل هذا، كان روبن نظيفاً ورصيناً، وبطريقة أو بأخرى كنا نُضفي لمساتنا على أشهر الصيف تلك بالسعادة، والفرح، والأشياء البسيطة التي يحبها: وجبات الطعام، وحفلات عيد الميلاد مع العائلة والأصدقاء، والتأمل معاً، والتدليك، والأفلام، وأكثر من كل ذلك؛ أن نُشبّك أيادينا معاً".
لكن مع الوقت، أصبح روبن أكثر ضجراً، كان قناع باركنسون أكثر وطأة وحضوراً من أي وقت مضى، وأصاب صوته الوهن. أصبح ارتعاش يُسراه مستمراً، وأصبحت مشيته بطيئة وفيها ترنُّح خفيف، كان يكره أنه لا يستطيع استدعاء الكلمات التي يريد قولها في المحادثات، كان يتقلَّب تقلُّب المحموم في فراشه دون أن يفارقه الأرق الرهيب. في بعض الأحيان كان يجد نفسه متجمداً في مكانه لا يستطيع التحرك، ويشعر بالإحباط عند خروجه من تلك المواقف، وبدأت مشاكله مع قدراته البصرية والمكانية في تحديد المسافة والعمق. وقد أضاف إلى ارتباكه فقدان المنطق البسيط الذي يحكم كلام البشر وحركتهم. بدا وكأنه كان يغرق في أعراضه، وكنت أغرق معه. عادةً تظهر معظم أعراض "داء ليوي" وتختفي عشوائياً، حتى أثناء يوم واحد. لقد رأيت زوجي صافي الفِكر واضح المنطق لدقيقة واحدة، وبعد خمس دقائق أراه فارغاً مرتبكاً.
ومن شأن التاريخ المرضي السابق أن يُعقد التشخيص. في حالة روبن كان لديه تاريخ من الاكتئاب الذي كان خاملاً لمدة ست سنوات، ولذا عندما ظهرت علامات الاكتئاب عليه قبل أشهر من رحيله فُسرت على أنها أعراض تابعة لمرض باركنسون.
ليلة الرحيل
في ليلة 10 أغسطس (آب)، وعندما خلدا إلى النوم بطريقتهما المعتادة، قال روبن: "ليلة سعيدة يا حبيبتي" وانتظر ردها المعتاد: "ليلة سعيدة يا حبيبي".
لا يزال صدى كلماته يتردد في قلبها حتى اليوم.
في يوم الأحد، 11 أغسطس (آب)، رحل روبن منتحراً.
آمل أن تلهمكم مشاركة هذه التجربة لتحويل معاناة روبن إلى شيء ذي معنى بعملكم وحكمتكم، أنا موقن بأن موت روبن لن يذهب سُدى إذا كانت تجربته مصدر شفاء لآخرين.
أعلم أن العالم حقق الكثير بالفعل في مجالات البحث العلمي واكتشاف علاجات لأمراض الدماغ، وأنا متأكد من أنكم قد شعرتم في أحيان كثيرة بأن التطوُّر الذي نحرزه بطيء للغاية، لا تفقدوا الأمل، كونوا على ثقة من أن علاجات واكتشافات كثيرة في كافة مجالات أمراض الدماغ قد أوشكت على الظهور، ومن أنكم ستكونون جزءاً من ذلك.
"آهٍ لو كان روبن قد التقاكم كان سيحبكم كثيراً، ليس فقط لأنه كان عبقرياً شغوفاً بالعلم والاكتشاف، بل لأنه كان سيجد الكثير من جوانب عملكم يمكن استخدامها في إمتاع جمهوره. في الواقع كان دور الطبيب هو أكثر الأدوار تكراراً في مسيرته الفنية، ولو أنها كانت أشكالاً مختلفة من الممارسات الطبية عمَّا تقومون به.
لقد أشعلتم بعملكم شرارةً في عقلي هي مكمن الفضول والشغف، وفي قلبي حيث يسكن الأمل. أريد أن أتبع خطاكم، ليس بطريقة المعجبين المهووسين، بل باعتباري شخصاً يعرف أنكم ربَّما تكونون من يكتشف علاج داء جسيمات ليوي وأمراض دماغية أخرى."
تلك كلمات زوجة رجل عانی وحارب مرضه الداخلي بضراوة، وحينما عجز عن التحمل رحل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.