المرآة أداة لا تعرف المهادنة، تعكس الحقيقة كلها من دون تزييف مهما كانت بشاعتها، وربما لهذا اعتبر الفيلسوف الصيني كونفوشيوس الموسيقى مرآة حضارة الشعوب، فالنوتة كيان حر لا يقبل الأدلجة يقفز من درجة نغمية إلى أخرى، من ترنيمة في كنيسة كاثوليكية إلى لطمية في كربلاء، ومن أغنية بوهيمية عن المعاناة في حي منسيٍّ إلى مقطوعة شوبان في دار أوبرا، وكما يمكن أن تتغنى النوتة بالحاكم وإنجازاته، يمكنها أيضاً أن تغضب من النظام وزلّاته، لتعكس في النهاية الصورة الكاملة للواقع بكل مكوناته. إلا أن الأنظمة أحياناً لا تحب انعكاسها في المرآة فتكسرها وتلاحق صانعيها.
يعتبر الشيخ إمام من أوائل ضحايا المرآة، وهو الذي عاش حياة عصيبة قبل أن يجد في النوتة ضالته. رغم فقدانه للبصر في سن صغيرة تمكن من حفظ القرآن والتميز في تلاوته، إلا أنه طُرد من الجمعية الشرعية السُّنية؛ بعدما وجدوه يستمع إلى القرآن على أمواج الإذاعة وكان الراديو يعتبر بدعة آنذاك. جلب العار إلى عائلته وطرده أبوه بعيداً عن قريته إلى حارات القاهرة الموحشة، حيث عاش معاناة المواطن المصري البسيط التي أيقظت قريحته الفنية ودفعته إلى خلع الجُّبَّة والقفطان وارتداء البذلة، لينطلق في مسيرته الفنية حاملاً عوده، وهموم المواطن المصري لا تفارقه. هموم أحسن صياغتها الشاعر "نجم" الذي شكَّل مع إمام ثنائياً شعبياً أعجب الناس بأعماله وشاركتهم الإذاعة الوطنية المصرية ذلك الإعجاب، فقد احتضنت الإذاعة هذا الثنائي الشعبي واحتفت بأغانيه على إذاعتها. لكن سرعان ما اختفى هذا الإعجاب بعدما تمادت أغاني إمام في نشازها عن الموجة الفنية السائدة آنذاك والتي كانت لا تكل ولا تمل من مدح جمال عبدالناصر والإشادة بسياساته، إلا أن إمام ونجم تجرّآ على انتقاد جمال عبدالناصر وسياساته بعد نكسة 67، حينما غنى بلهجة ساخرة: يا مَحلا رجعة ظباطنا/من خط النار/يا أهل مصر المحميَّه/بالحراميَّه/الفول كتير والطعميه/والبر عمار/والعيشه معدن واهي ماشيه/آخر أشيا/مادام جنابه والحاشيه/بكروش وكتار.
غضب جنابه والحاشية من نوتة إمام وشاعره؛ وزج بهما في السجن بتهمة تعاطي الحشيش، وهي تهمة شكك في مصداقيتها كثيرون؛ نظراً إلى كونها تهمة ملفقة، غالباً ما يلجأ لها النظام المصري للتخلص من خصومه. واصل نجم وإمام إنتاجهما الفني من وراء القضبان، مردِّدَين أغنيتهما الساخرة من معتقل إلى آخر "شيِّد قصورك عالمزارع من كَدِّنا وعمل إدينا، وافلت كلابك في الشوارع… واقفل زنازينك علينا". وما يلبث إمام أن يسترجع حريته حتى يعود إلى سجن جديد وبتهمة جديدة، غير أن ذنبه الوحيد هو إدمانه السخرية من فراعنة مصر وحاشيتهم، فلم يسلم السادات من نوتة السخرية في أغنية "شرَّفت يا نيكسون بابا"، مستنكراً الاستقبال الأسطوري الذي حظي به الرئيس الأمريكي نيكسون في مصر خلال فترة محاكمته قي فضيحة التجسس على مكتب الحزب الديمقراطي، فيما عُرف بقضية "ووترغيت" فغنى إمام:
شرَّفت يا نيكسون بابا يابتاع الووترجت
عملولك قيمة وسيما سلاطين الفول والزيت
لم تزل لعنة العازف الفرعوني الضرير عن فراعنة مصر بعد وفاته، فقد هزت أغانيه الساخرة ميدان التحرير في ثورة 25 يناير، وقد وجد فيها شباب الميدان وصفاً دقيقاً لوضعية مصر في عهد حسني مبارك رغم أنها كُتبت في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. فغنَّى الثوار "شيِّد قصورك"، ورددوا كلمات "هما مين واحنا مين/هما الأمرا والسلاطين/هما المال والحكم معاهم/واحنا الفقرا المحكومين". غير أنه هذه المرة لم يستطع الفرعون الثالث القبض على روح إمام؛ لنفاد التهم أو لانعدام النفوذ في العالم الآخر.
ومن الميدان نفسه الذي عَلَتْ فيه نغمات الشيخ إمام، علا أيضاً صوت رامي عصام، شاب مصري يغني للتغيير منذ سنة 2009 مع فرقته "مشاكل". في حين كان كل من بميدان التحرير يخدم الثورة والثوار بما يستطيع، هذا كان كل ما يملكه عصام، الرغبة في التغيير ونوتة الروك الغاضبة. تلاحَم هذان المكونان لينتجا أغاني مثل أغنية "عيش حرية عدالة اجتماعية"، عهد مبارك و"ارحل" التي تحولت إلى نشيد ثوري في ميدان التحرير، حيث ردد الثوار جميعاً "كلنا ايد واحدة وطلبنا حاجة واحدة ارحل ارحل ارحل".
تعرض عصام للتعذيب داخل المتحف المصري الذي شكَّل مركزاً للجيش خلال ثورة 25 يناير، واستمرت الاعتقالات والمضايقات تجاه فن عصام الذي غنى ضد مبارك والعسكر والإخوان.
حلم عصام بمصر "مش إخوان ومش عسكر" بمصر حرة، حلم استحال بعد استيلاء النظام العسكري على الحكم في مصر. فحمل عصام حلمه ونوتته الغاضبة المسكونة بروح الميدان إلى بلاد المهجر هناك حيث لا تستطيع أيدي النظام السيساوي الوصول إليه هناك وحيث يستطيع أن يكون "مش إخوان ومش عسكر"، وحيث يستطيع أن يكون حراً فقط. وقد يتوقع البعض تفهماً أكبر من السيسي تجاه الموسيقيين؛ لكونه عُرف بحبه لاستخدام الأغاني والرقص في حملاته الانتخابية ضد منافسيه الكومبارس، حيث يرقص مؤيدوه على أنغام أغنيتي "تسلم الأيادي" و"بشرة خير"، أمام مراكز الاقتراع، إلا أن ذلك غير صحيح فلم يبدِ السيسي أي تسامح تجاه أغنية رامي عصام "بلحة" التي انتقدت قرارات السيسي وسخرت من مشروع قناة السويس ومن صفقة جزيرتي تيران وصنافير، في الوقت الذي يعيش فيه الشعب المصري أوضاعاً مزرية على جميع الأصعدة. ورغم أن الأغنية لم تشر إلى السيسي بالاسم بل اكتفت بذكر "بلحة" اللقب الذي يطلقه عليه المصريون بدافع السخرية، لاقت الأغنية استنكاراً كبيراً من إعلام النظام، تبعته موجة اعتقالات واسعة طالت مجموعة من أصدقاء عصام السابقين، بالإضافة إلى كاتب الأغنية الشاعر جلال البحيري ومخرجها شادي حبش، بتهم تتراوح بين الانتماء إلى جماعة إرهابية، ونشر معلومات كاذبة وازدراء الأديان.. أطلق شادي صرخة نجدة من السجن سنة 2019، مصرحاً بأن "السجن مابيموتش بس الوحدة بتموت، أنا محتاج دعمكم عشان ماموتش"، داعياً أصدقاءه إلى الوقوف بجانبه والمطالبة بحقه في الحرية، كإنسان بريء من جميع التهم الموجهة إليه. صرخة حبش قوبلت بصمت عميق؛ لم يدعم أصدقاء شادي حريته، فمات سنة 2020 سجيناً.
تفوقت النيابة المصرية على نفسها في تبرير موت شادي، وقد جاء في بلاغها أنَّ سبب وفاة حبش هو خلطه للكحول المطهر مع مشروب غازي؛ ليكون له تأثير مسكر. وهذه تهمة إصدار محدود فقط في فترة الكورونا عكس الحشيش والإرهاب والبانجو الصالحة لكل زمان.
إمام، وعصام، وحبش وغيرهم كثر بالسجون العربية أو منفيون في البلدان الأجنبية، ذنبهم الوحيد هو إيمانهم بأن الفن مرآة في زمن أصبح فيه الناس ينبذون صراحةً المرآة ويهيمون بزيف فلتر السناب شات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.