كثيراً ما تجد فنانين، برعوا في فنهم وأتقنوه، سواء كان هذا الفن موسيقى أو شعراً أو رسماً، لكن قليلاً ما تجد فناناً غير وجه الفن الذي أحبه، ووضع بصمة سجلها التاريخ لا تمحى، وفي الموسيقى تجد اسم زرياب ساطعاً مغيراً شكل الموسيقى لدرجة أن الأندلس سقطت، لكن فنه لم يذهب ولم يسقط.
من هو زرياب
زرياب اسمه الحقيقي أبو الحسن بن نافع الموصلي، ولقب بهذا الاسم لعذوبه صوته، وفصاحة لسانه، والزرياب هو طائر جميل الصوت، اشتهر أبو الحسن في الأندلس خلال الثلث الأول من القرن الثالث الهجري.
عاش زرياب في العراق، حيث نشأ وتتلمذ على يد إسحق الموصلي، الذي قدمه للخليفة هارون الرشيد، وما إن أعجب به السلطان في أول مرة سمع فيها صوته إلا وبدأت الضغينة تتسلل إلى قلب أستاذه.
خير إسحق زرياب، بين أن يرحل عن بغداد، وإما يغتاله، فقرر الأب الصغير الرحيل، فهجر العراق وقصد الأندلس وهناك بزغ نجمه.
إسهامات زرياب في تطوير الموسيقى..
لم يكن زرياب عبقرياً في الموسيقى فقط، فقد كان شاعراً وعالماً ملماً بمختلف ألوان العلوم والمعرفة والآداب وفلكياً عارفاً بالنجوم ومطّلعاً على جغرافية الأرض ومتعمقاً في التاريخ.
لكننا لو نظرنا إلى الموسيقى تحديداً سنجد أن الرجل قدّم إسهامات وتجديدات عبقرية في المجال الفني، مشكلاً أساس الفن الراقي الذي اتبعه الموسيقيون من بعده.
أدخل زرياب تحسينات عديدة على آلة العود، فجعلها أخَف وزناً، واستخدم في صناعة أوتاره مواد جديدة كالحرير ومصران شبل الأسد، وأضاف إليه الوتر الخامس بعد أن كان 4 أوتار فقط ليستكمل مجموعة النغمات والأصوات التي أرادها.
قسم الألحان على الأوتار الخمسة، وأعاد تشكيل ما عرف لاحقاً بالنوتة الموسيقية، وغير المضراب، وهي الأداة الصغيرة المستخدمة في الضرب على الأوتار، فجعلها خفيفة من الريش بعد أن كانت خشبية خشنة تجرح الأوتار وتقلل من عمرها الافتراضي.
وبعد أن غيرها أضاف مقامات موسيقية لم تكن معروفة من قبله، وكان أول من افتتح الغناء بالنشيد قبل البدء بالنقر، إضافة إلى أنه أول من وضع قواعد لتعليم الغناء للمبتدئين.
نقل زرياب لمحة موسيقية جديدة من بلاد المشرق إلى الأندلس، وتفنن وابتكر آلات موسيقية جديدة وألحاناً جمعت بين الشرق البغدادي والغرب الأندلسي.
أسس أول مدرسة موسيقية
أسس زرياب أول مدرسة للغناء والموسيقى، وهي أول مدرسة في التاريخ أُسست لتعليم علوم الموسيقى وفنون الغناء وقواعد اللحن والإيقاع، والتي أصبحت في مدة قصيرة قبلة لعشاق الفن والموسيقى ليس من العالم الإسلامي فقط وإنما من العالم كله.
اتبع زرياب في مدرسته فلسفة تعليمية خاصة تقوم على أسس علمية في الصوتيات والموسيقى تبدأ باختبارات الصوت، ووضع أسساً لتعليم المبتدئين تتبع حتى الآن في المدارس العالمية.
كان زرياب أول من وضع قواعد علم الصولفيج وتمارين الصوت والقراءة الموسيقية، وكان حافظاً لكم هائل من المقطوعات الموسيقية والألحان قيل إنها تجاوزت 10 آلاف.
اكتشاف المواهب
لم يقتصر دور الفنان البغدادي على وضع ملامح الموسيقى العالمية، وإنما بذل مجهوداً كبيراً في تلمذة موهوبين، علمهم أصول الغناء، كيف يشد كل منهم بطنه أثناء الغناء، مخارج الصوت، مخارج الحروف، تركيز الصوت وتشكيله وغيرها من المهارات التي شكلت جيلاً موسيقياً خرج من بين يديه، وإليه يرجع الفضل في تعليم الجواري الغناء في عصره والعزف على العود.