طلعت زكريا، محيي إسماعيل.. عن الذين اقتربوا من أحلامهم أكثر من اللازم فاحترقوا

عربي بوست
تم النشر: 2019/11/14 الساعة 14:59 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/11/14 الساعة 14:59 بتوقيت غرينتش
من اليمين: الفنان طلعت زكريا، اللاعب محمد اليماني، الفنان محيي إسماعيل

على طريق "القاهرة- الإسماعيلية"، قاد الفتى ذو الـ19 عاماً سيارته، عائداً إلى منزل أسرته في مدينته الصغيرة "الإسماعيلية"، مدينته الأم التي على صغرها اعتادتْ على احتواء أحلامه التي لم تكن لها حدود إلا السماء.. نظر للأفق مبتسماً في ثقة، فالأخبار القادمة من بلجيكا سارّة للغاية؛ حيث المفاوضات بين ناديه "ستاندر لياج" والنادي الإيطالي العملاق "يوفنتوس"، بخصوص ضمه لصفوف عملاق إيطاليا تسير على أفضل ما يكون، بالرغم من المبلغ الكبير الذي طلبه ناديه البلجيكي، إلا أن إدارة "يوفنتوس" يبدو أنها لا تمانع في دفع 12 مليون دولار من أجل الفوز بخدمات نجم منتخب الشباب المصري "محمد اليماني"، الذي تألق قبل شهر في كأس العالم للشباب التي أُقيمت في الأرجنتين عام 2001. حصد المنتخب المصري الميدالية البرونزية في البطولة، وحصد "اليماني" لقب ثاني أفضل لاعب في البطولة، وأصبح من أشهر الرياضيين في مصر.

ميدو الآن متألق في نادي "آياكس" الهولندي، وهو المحترف المصري الأبرز، حيث يتعامل معه المصريون باعتباره النجم الذي استطاع إبهار الخواجات ومنافستهم.. "أستطيع أن أكون أفضل منه"، ربما ردَّدها "اليماني" بينه وبين نفسه.

الجو حار، فنحن في يوليو (تموز) حيث تبخّ الأرض حرارتها كأنها غاضبة على بني البشر، لكن "اليماني" لم يجد الدنيا راضية عنه كما يجدها الآن.

بدا كل شيء جميلاً حدّ الدهشة، لكن كان على الفتى أن يستفيق من أحلامه على صوت اصطدام مفاجئ! يبدو أن سيارة نقل اصطدمت بسيارته من جانبها، ها هو يحاول السيطرة على عجلة القيادة، يتشبّث بها كأنه أمله الأخير، يسمع صوت احتكاك إطارات السيارة بالأسفلت مزمجرة، قبل أن تندفع سيارته لجانب الطريق، وتصطدم بلوحة إعلانية ضخمة من التي توجد على جانب الطريق، ثم أظلم كل شيء.

نزيف في المخ، أدى لإصابته بفقدان مؤقت للذاكرة استمرَّ نحو ثلاثة أشهر، كان أبوه يلازمه خلالها، ويعرض عليه لقطات تألقه مع المنتخب في كأس العالم للشباب، يُريه ما كتبته عنه الصحف، لعلَّ الفتى يستعيد ذاكرة ما عاشه. وبالفعل، بدأت ذاكرته تعود إليه بالتدريج، وكان عليه أن يبدأ من جديد في "بلجيكا" مع ناديه، بعد أن انتهت مفاوضات "يوفنتوس" بالطبع خلال فترة إصابته، لكن شيئاً ما في روحه كان قد انطفأ إلى الأبد، ليعيش مسيرة متخبطة في عالم الكرة، حيث بدأ الفتى -الذي لم يكن يعرف السهر- يسهر، ويفعل أشياء أخرى. عاد إلى مصر لعلّه يجد نفسَه، فيعيش مسيرة متخبطة من الإسماعيلي إلى الاتحاد، ثم يرحل لنادي "الشمس" بعيداً عن أضواء الدوري الممتاز، ثم رحلة احتراف قصيرة في "صربيا"، يعتزل بعدها اللاعب عام 2010، في نادٍ مغمور، وهو الذي كان على أبواب اللعب في واحد من أكبر أندية أوروبا، لقد كان يقف على بوابة المجد، قبل أن يركله القدر بقسوة بعيداً عن حلمه.

منذ أيام، خرج نفس اللاعب في أحد البرامج، لكنَّه تغيَّر كثيراً، بدا رجلاً ناضجاً متقدماً في العمر، يتحدث بمرارة ويقول: "فيه لاعيبة دلوقتي بتلعب وبتاخد ملايين وهي مبتعرفش تباصي، الكورة دي أرزاق، يعني مثلاً محمد صلاح لاعب عظيم، لكن فيه لاعيبة في مصر أحسن منه بكتير بس موصلتش، نصيب". نال "اليماني" الكثير من السخرية على تصريحاته من رواد السوشيال ميديا، الذين ينتمي معظمهم لأجيال صغيرة السن غالباً لا تعرف تاريخه، ولا تعرف مرارة أن تقترب من تحقيق أجمل أحلامك قبل أن ينتهي كل شيء فجأة.

***

كان عام 2008 "وش السعد" على الفنان الراحل "طلعت زكريا"، بعد النجاح الكبير الذي حقَّقه فيلمه "طباخ الريس"، لدرجة أن الأخبار خرجتْ لتقول إن الرئيس "مبارك" شاهد الفيلم وأعجبه، بدأ الكوميديان الموهوب يشعر أن الحياة أخيراً تلتفت له وتعطيه حقه، بعد أن عاش سنين طويلة يلعب أدواراً متفاوتة الصغر، قبل أن يتقدم الصفوف بموهبته وحضوره اللافت.

وبينما هو يجلس مسترخياً على حافة حمام السباحة، في الفيلا التي كان قد اشتراها للتوِّ بعد النجاح الكبير الذي حققه فيلمه، وبدأت عروض العمل تنهال عليه، والسيناريوهات تتراكم على طاولته، تنتظر أن يختار من بينها العمل الذي يريد تقديمه، سقط "طلعت" ونُقِل للمستشفى، وظلَّ أسير غيبوبة حيَّرت الأطباء، قبل أن يشخصوا مرضه بأن فيروساً نادراً قد هاجم المخ، ليُبقيه في غيبوبة دامت شهوراً، حتى إن البعض اعتبره ميتاً، ينتظر فقط الإعلان عن موته.

لكن إرادة الله كان لها رأي مختلف.. استفاق من غيبوبته، وبدأ في التعافي ببطء، فقد الكثير من وزنه، والأسوأ أن المرض أفقده الكثير من حضوره وهالته الكوميدية الجذّابة التي لطالما لفتتْ الأنظار إليه.. حاول أن يستعيد لياقته الفنية لكن شيئاً كان قد ضاع في غمار الغيبوبة، ولم يستطع استعادته.. ثم قامت ثورة يناير، وظهر طلعت مدافعاً عن "مبارك"، وأصدر التصريحات الشهيرة عن أنه يمتلك معلومات أن متظاهري التحرير يقيمون علاقات جنسية كاملة في خيامهم. ظهر الرجل متوتراً منفعلاً بصدق، بدا دفاعه عن "مبارك" دفاعاً شخصياً، كأنه رأى فيه مَن أنصفه ووضع أقدامه على بوابة النجومية الحقيقية، قبل أن يظلم كل شيء.

تصدَّر اسم "طلعت زكريا" القوائم السوداء للفنانين الذين عادوا الثورة، فخرج واعتذر، ثم انقلبتْ الأمور، فخرج ليؤكد ما اعتذر عنه! وعلى مدار 10 سنوات منذ إصابته بالغيبوبة حتى رحيله خلال الشهر الماضي، لم يقدم الفنان الراحل دوراً حقَّق نجاحاً يقارب أدواره خلال فترة ما قبل الغيبوبة، بحث عن نفسه في الدراما وفي السينما مُجدداً، فلم يجدها.. هناك شيءٌ ما فُقِد، فُقِد للأبد كما يبدو، بعد أن كاد يلامس المجد بيديه.

***

كان ظهور "محيي إسماعيل" في السينما خلال عام 1974 مميزاً، فلقد حقَّق نجاحاً ملحوظاً من خلال تجسيده المتميز لشخصية الضابط الصهيوني "عساف ياجوري"، في فيلم "الرصاصة لا تزال في جيبي"، ثم جاء النجاح الأهم من خلال دوره في فيلم "الإخوة الأعداء"، حيث أدى دور شاب مريض بالصرع. كرَّمه الرئيس السادات، وفاز بجائزة أفضل ممثل عن ذلك العام، وظنّ النجم الشاب أن أبواب المجد قد فُتِحت له، لكن سياسة تعامله مع المنتجين جعلتْ نجمه يخفت تدريجياً، فقد ظن أنه يستطيع أن ينتقي كل دور له بعناية، فلا يؤدي إلا ما يروق له، وكان قد وقع في غرام أداء الأدوار ذات الصراعات النفسية المُركبة، وهو بالطبع ما لن يجده في كل ما يُعرَض عليه. بدأت الأضواء تنسحب من حوله تدريجياً لصالح نجوم جيله، وعلى رأسهم بالطبع عادل إمام ونور الشريف.

سافر إلى أوروبا ليشارك في عدة أعمال سينمائية ومسرحية، ثم يعود ليؤدي دوراً هنا أو هناك في مصر، وعلى مدار سنين طويلة، حاول الرجل الموهوب أن يجد لنفسه مساحة تحت الضوء، لكن دون أن يصل، دون أن يجد الفرصة لتفريغ الطاقة التمثيلية المهولة التي يمتلكها، وظلَّ بعيداً عن النجاح الحقيقي الذي حققه في منتصف السبعينات.

حقَّق الفنان "محيي إسماعيل" نجاحاتٍ في الخارج، ونال تكريمات في مهرجانات عالمية، لكن في مصر لم ينل التقدير الكافي أبداً، خصوصاً من المنتجين الذين انصرفوا عنه، وساعد في هذا طبيعته الحادة واعتداده بنفسه، ورفضه لقواعد السوق السينمائي.

في السنين الأخيرة، بالتحديد في فترة ما بعد ثورة "يناير"، بدأ الظهور الإعلامي له يزداد بصورة لافتة، فدقائق قليلة تقضيها على متصفح "جوجل" ستخبرك أنه واحد من أصحاب أكبر أعداد اللقاءات الصحفية والتلفزيونية في السنين الأخيرة؛ فالرجل لا يترك فرصة للظهور تحت الأضواء إلا ويستغلها، يظهر مرتدياً ألواناً فاقعة أحياناً، ونظارة شمسية في ظل الاستديوهات في أغلب الأوقات، مستعرضاً في غرابة إنجازاته، متفاخراً بنفسه إلى حدِّ الغرور الكوميدي، يزيل الخط الفاصل بين الحقيقة والخيال، فلا يعرف المشاهد هل الرجل يُمثِّل أم أن هذه هي شخصيته الحقيقية؟ ضحكتُ مثل الكثيرين وأنا أشاهد لقاءه الأخير إياه، والذي أصبح "التريند" الأهم عبر جميع وسائل السوشيال ميديا، ضحكتُ، لكن كان في نفسي بعض الألم، ربما بسبب ما أراه في حال موهوب لامس المجد مرة منذ سنين طويلة، قبل أن تجافيه الأضواء، ويتبدل كل شيء؛ فيلجأ لأن يقدم نفسه للناس كرجل مغرور بنجاح لم يكتمل، أضحك لكن في نفسي شيء كان يتمنى لهذه الموهبة فرصاً أفضل للظهور، فرص أكبر من مجرد استعراض سريع أمام الكاميرات لشخصية كاريكاتورية طاغية الحضور، تجتذب ضحك المشاهدين ببعض الكوميديا اللحظية. في لقاءاته المتعددة يتحول هذا الحضور الكوميدي لمرارة عندما يتحدث عن الزمن الماضي، حتى إنه بكى في أحد البرامج عندما عرضوا مقطعاً أمامه من فيلم "الإخوة الأعداء". أتفهم سبب البكاء، أتفهم أن تشعر أنك على أعتاب تحقيق حلمك قبل أن يتغير كل شيء، وتنطفئ الأضواء.

***

"الأمل شيءٌ خطير، يمكن للأمل أن يقود الإنسان للجنون"

هكذا قال الممثل القدير "مورجان فريمان"، من خلال الشخصية التي أداها في الفيلم البديع "الخلاص من شاوشنك".. بالفعل، الأمل حملٌ ثقيل، يزداد ثقلاً على صاحبه عندما يكون قد اقترب بالفعل من تحقيق أجمل أحلامه، قبل أن يتغير كل شيء، وتتسرب أحلامه من بين أنامله، فهل يستطيع الحياة كما كان قبل اقترابه؟

في عالم الأساطير الإغريقية حكاية عن "إيكاروس"، الذي طار نحو الشمس بجناحين ثبتهما بالشمع، ذاب الشمع بفعل وهج الشمس، وسقط "إيكاروس" صريعاً، بعد أن اقترب من الشمس أكثر من اللازم. يبدو أن الأمل كذلك فلا أحد يعود كما كان بعد أن يلامس غواية الحلم والأمل، شيء ما يحترق في الروح، ولا يعود كما كان.

لم يعد "آدم" كما كان أبداً بعد أن أكل من الشجرة المُحرَّمة، ويبدو أننا، نسله، لا نختلف عنه في هذه النقطة.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد مدحت
كاتب ومدوّن مصري
أحمد مدحت خريج كلية التجارة جامعة الإسكندرية، عمل كاتباً حراً في عدة صحف ومنصّات عربية مختلفة.. مُهتم بالكتابة في المجالات الأدبية المختلفة، خاصة مساحات العلاقات الإنسانية على تنوعها.
تحميل المزيد