وسط حطام موقع دمّرته القنابل بعدما كان ذات يوم يستضيف عشرات من عازفي المقام الموسيقي التراثي في الموصل، يعزف سعد رجب باشا على نايِه ليتذكّر أيام مجد المدينة قبل وقوعها تحت سطوة تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش).
فرّ سعد البالغ من العمر 65 عاماً من الموصل في عام 2014، بعدما اجتاح مقاتلو داعش المدينة وسنّوا قاعدة صارمة تعتبِر جميع الآلات الموسيقية -بما في ذلك الناي الذي يعزفه- انتهاكاً للشريعة الإسلامية، بحسب تقرير لشبكة Voice of America الأمريكية.
وحين عاد إلى وطنه بعد عامين لاحقين، تبيّن له أن أجزاء كبيرة من مدينته الحبيبة صارت ركاماً في الحرب العراقية ضد داعش.
تخرج الألحان الحزينة من آلة الناي التي يعزفها سعد بينما يحتفل العراق، هذا الشهر، بالذكرى الثانية لاستعادة المدينة من قبضة داعش.
المدينة في حالة خراب
يقول سعد إنه على الرغم من التفاؤل المبدئي بشأن بدء حياة جديدة بعد هزيمة الجهاديين، فإن معظم المدينة لا تزال ترقد تحت التراب، وفنانونها -بين آلاف السكان- غير قادرين على العودة بسبب نقص الخدمات الأساسية.
ويقول سعد لشبكة Voice Of America الأمريكية: "أشعر أن الفن قد ذُبِحَ" مضيفاً أن فناني الموصل إما قُتلوا أو اضطروا إلى الفرار بسبب اتّهامهم بالكفر من قِبل داعش.
وقال: "لقد ضاع جهد الفنانين في الموصل بسبب هؤلاء المتطرفين الذين يكرهون الحياة والموسيقى والفن" .
يقيم سعد الآن في أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق، ولكنه يزور مسقط رأسه الموصل بشكل متكرر للمساعدة في تنظيم الفعاليات الموسيقية في المدينة؛ فقد عزف الناي على الطريقة العراقية منذ أكثر من 30 عاماً، مما أكسبه شهرة بين سكان الموصل لإسهاماته في موسيقى المقام العراقية التقليدية.
قبل أن تهاجم داعش المدينة وتحظر الموسيقى على سكانها، كان سعد يساعد في تنظيم الفعاليات الموسيقية في بيت المقام، الذي تأسس قبل 25 عاماً في حي غرب الموصل المعروف باسم المدينة القديمة.
وقال سعد في حديثه لـ VOA، وهو جالس فوق أطلال بيت المقام، الذي دمرته غارة جوية في عام 2017: "لقد صار هذا المكان الآن جرحاً كبيراً في قلبي؛ فقبل سنوات قليلة كنا جميعاً هنا، نعمل معاً، نستمتع بأوقاتنا، ونعزف معاً، والآن صار هذا كلّه مجرّد ذكرى" .
الموصل هي ثاني أكبر مدينة في العراق ويبلغ عدد سكانها أكثر من مليون نسمة، وقد ظلّت في قبضة داعش لمدة ثلاث سنوات إلى أن أعلن رئيس الوزراء العراقي آنذاك حيدر العبادي رسمياً الانتصار على داعش في المدينة في يوليو/تموز 2017.
وفقد التنظيم الجهادي منذ ذلك الحين سيطرته على جميع المناطق التي حكمها ذات يوم كجزء من خلافته التي أعلنها في العراق وشرق سوريا.
الطريق إلى الأمام
بعد هزيمة داعش، حذرت الأمم المتحدة من أن طريق المستقبل "مليء بالتحديات" بسبب قدر الدمار الذي خلفته الحرب. وأشارت تقديراتها إلى أنه يلزم أكثر من 700 مليون دولار لاستقرار المدينة وجعلها صالحة للعيش مرة أخرى.
بعد عامين من العملية العسكرية، تقول المنظمات المحلية والدولية إنه لم يتم بعد استعادة أجزاء كبيرة من المدينة؛ لا سيما في الجزء الغربي من المدينة، الذي شهد قتالاً عنيفاً بين داعش والقوات العراقية.
ووفقاً للمجلس النرويجي للاجئين، لا يزال أكثر من 300 ألف شخص من سكان المدينة نازحين بدون منازل يعودون إليها. وتشير المنظمة إلى أن 138.000 منزل قد تضرر أو دُمِرَ خلال النزاع. وفي غرب الموصل وحدها، تشير التقديرات إلى هدم أكثر من 53 ألف منزل وتضرر آلاف المنازل الأخرى.
وقالت ريشانا هانيفا، مديرة الشؤون العراقية لدى مجلس اللاجئين النرويجي، في ذكرى استعادة الموصل هذا الشهر: "بالنسبة لهم، تظل معاناة الحرب التي انتهت قبل عامين متجسدة في المعارك اليومية التي يخوضونها للبقاء على قيد الحياة".
وأضافت ريشانا: "إنه لأمر مخزٍ أنه بعد عامين، لا يزال يتعين على الآلاف من الأسر والأطفال العيش في مخيّمات النزوح في ظل ظروف سيئة للغاية لأن بلداتهم لا تزال حطاماً" .
جثث تحت الأنقاض
يقول الذين عادوا إلى المدينة إن العديد من جثث المدنيين ومقاتلي داعش الذين قُتلوا في المعركة ما زالوا تحت أنقاض المدينة القديمة.
وأعرب السكان الذين التقت بهم شبكة VOA عن خيبة أملهم جراء فشل الحكومة في إعادة بناء البنية التحتية المدمرة وتعويض الضحايا، وخاصة أولئك الذين لحقت بهم إعاقات جسيمة جراء النزاع.
كان رعد أحمد أحد الضحايا الذين فقدوا كلتا أقدامهم أثناء الاشتباكات بين القوات العراقية وداعش. وبعدما فقد رعد أخاه الأصغر في الحرب، يحتاج إلى العمل كبائع للخضراوات لتوفير الخبز لعائلته وعائلة أخيه الفقيد.
يقول رعد في حديثه للشبكة: "ذهبت إلى مكتب المعاقين وطلبت منهم أن يعطوني كرسياً متحركاً لأنني أعمل. وقال لي مدير المكتب: أنت لا تستحق ذلك"، وأضاف أن الأموال التي جمعها كبائع لم تكن كافية للإنفاق على عائلته وسد احتياجاته الخاصّة.
يتساءل رعد: "إذا كنت لا أستحق هذا الحق الأساسي، فماذا أستحق؟ ماذا نستحق من هذا البلد؟ كل ما حصلنا عليه من هذا البلد هو الألم وتدمير الديار وموت شبابنا" .
وعلى الصعيد الرسمي، يقول المسؤولون العراقيون في تصريحاتهم إن التعافي من الأضرار التي تسببت داعش فيها خلال الحرب تتجاوز إمكاناتهم، وإنهم في حاجة إلى مساعدات دولية سخية لتمكينهم من استعادة الأمة.
وعلى الرغم من أن أحد المؤتمرات الدولية، انعقد في الكويت في أوائل عام 2018، قد جمع نحو 30 مليار دولار، معظمها في شكل قروض واستثمارات، للمساعدة في إعادة بناء الاقتصاد العراقي والبنية التحتية، فإن هذا المبلغ أقل كثيراً من المبلغ الذي يُتوقّع أن يحقق تعافي العراق في أعقاب داعش ويقدّر بـ 90 مليار دولار.