الخامس عشر من شهر يونيو/حزيران في سجن رومي للأحداث.
"أنا بدّي اشتكي على أهلي
ليش؟ لأنهم خلّفوني".
صدى الصوت في جدار المحكمة اللبنانية كان يصدح بتلك الكلمات، التي خرجت من أنامل لم يكتمل نموها من جسد هشٍّ صغير، من عينين نسيتا شكل الوطن، ومن بطن خاوٍ بلا مأكل.
في أزقة المخيم هنا تجد الحقيقة، لا تجدها في مكان آخر.. لن تجدها في مؤتمر يتفنن فيه الرؤساء في إتقان كَذِبهم في كلمات منمّقة تضحك بها على نفسِها قبلَ شعوبها.
هنا في مخيم اللجوء رائحة الخوف.. قصص لم تُروَ بَعد.. قلوب قد رقّقتها البلوى، قلوب تفيق كُلّ صباح على أمل الحياة، ويختفي أملها مع غروب الشمس وتُعِيدُ الكَرّة.
هنا الطفل قد بلغ الشباب قبل موعده، والشابّ قد بلغ الكهولة، والكهل أصبح شيخاً من هول ما عانوه.
إن كنتَ تريد الحقيقة فلا تُفتِّش في مكان آخر، فتِّش هنا في أزقّة اللجوء.
هنا حناجر تصدح بالحقيقة، إن كُنتَ وصلت.. نعم، هنا أنتَ في الحقيقة.. أنتَ في "كَفر ناحوم".
الفيلم الروائي الذي ترشَّح لجائزة الأوسكار، والصراع الإنساني الذي تم عرضه..
وعن اختيار الكُتّاب لهذا الاسم "كفر ناحوم"، وهي قرية فلسطينية تقع بالقرب من طبريا.
وهناك تفسيرات أخرى، منها "الجحيم الفوضى"، وهذا ما يتناسب مع ما يحويه هذا الفيلم من قضايا ويناقشها، وهذا ما أرادت الكاتبة أن تنقله إلينا: إظهار الصورة الحقيقية لواقع المخيمات في لبنان والفئات المهمشة بكل بقاع الأرض، عالم العشوائيات والفوضى والتربية المعدومة والألفاظ النابية، لواقع نظنه بعيداً عنا، لكنه هنا بيننا، عُمّيَ المجتمع عنه أو أنه قد تَعامى، لأنَّه لا يريد أن يراه.
من المحتمل لأنه مكبّل الأيدي، وإن رأى فماذا سيفعل؟! ماذا سيغير من الواقع المعيش؟ فالقضية أكبر من ذلك! هكذا نعتقد..
تأخذنا المخرجة نادين لبكي في مشاهد الفيلم نحو نقاط نكاد نجهلها ونغفل عنها، عن الواقع المرير المحيط بالزواج، عين المشاهد بلهفة كبيرة لمعرفة الأحداث ويرى ولو بالقليل ماذا تعانيه هذه الفئات المهمشة.
إلى أين وصل بها مجرى الحياة؟ من الممكن أن نذهب إلى المخيم ونحاول أن نتعايش معهم، لكن حين نذهب.. من يعلم كيف يعيش هؤلاء؟ كيف يقضي زين وإخوته يومهم؟ ماذا يأكلون ويشربون؟ ما هي أبسط أحلامهم؟ ما هو شكل طفولتهم؟
زين محور الفيلم الأساسي يمثل كل فئات (مكتومي القيد)، الذين لا يمتلكون أوراقاً ثبوتية تثبت وجودهم، ليست لديه أي وثيقة ولادة وغير مسجَّل في الدوائر الرسمية، ونتيجة لذلك حُرِمَ زين من التعليم ومن العلاج ومن حقوقه كمواطن!
زين طفل الأعوام العشرة مكبَّلة أنامله بقيد، بتهمة محاولة قتل زوج شقيقته القاصر، تلك التي ماتت بسبب كونها غير مهيأة للزواج، ولأنها من عائلة تفتقد القدرة على الاهتمام بمعالجتها بعد تعرُّضها لنزيف أفقدها حياتها.
"ليش بدّك تشتكي على أهلك؟
لأنهم خلّفوني".. بداية هي النهاية.
بدأت الأحداث من نقطة النهاية ثم تم عرض المَشاهد على شكل "فلاش باك" (استرجاع للأحداث) حتى تصل إلى قاعة المحكمة، وهو المشهد الأخير الذي يشتكي فيه زين على أهله، لأنهم أنجبوه ويَطلب منهم ألا ينجبوا مزيداً من الأطفال.
تُشَدُّ جُل جوارِحك لتتابع مجرى الأحداث، حيث ناقشت الكاتبة كثيراً من المشاكل التي تعانيها تلك الفئات المهمشة: عمالة الأطفال، تجارة المخدرات، زواج القاصرات، تهريب لاجئين، عاملات أجنبيات ضحية نظام الكفالة؛ التجارة بالبشر والكثير والكثير.
حاول صُنّاع الفيلم إدخال كل شيء من الممكن أن يثير العاطفة الإنسانية لدينا، كما قالت المخرجة، "حتى يثور الإنسان على الواقع الذي يعيش فيه".
بدايةً، والد زين ووالدته اللذان قد فقدا الإنسانية، وتجرَّدا من عاطفة الأمومة والأبوة، فقدوها حين فقدا الوطن.
أهل غير مبالين، لا بتربية أبنائهم ولا بتوفير أدنى احتياجاتهم، اللجوء لبّد مشاعرهم.
يحمل الأطفال مسؤولية أنفسهم.. فزين رغم صغر سنّه كان أباً لنفسه ولإخوته، يعمل ويوفر لهم ما يستطيع، وهذا ما أرادت أن توضحه الكاتبة، وهو موضوع عمالة الأطفال.
وظهرت سحر، لتعرض قصة آلاف الفتيات اللواتي يذهبن ضحايا كل يوم بواقع بيع القاصرات تحت اسم "الزواج".
فتاة عمرها إحدى عشر، لا يوجد لديها أدنى فكرة عن مفهوم الزواج ومسؤولياته، بِيعَت لصاحب البيت الذي يعيش فيه أهلها، بيعت وكان ثمنها أربعة جدران مهترئة وسقفاً واحداً.
لطالما كان هذا المشهد الأكثر إيلاماً في الفيلم، كأنّ الكاتبة تريد أن تقول لك: لم لا تبكِ؟! لم تتحرك مشاعرك؟! ابكِ لعلك ثُرت على الواقع المعيش وغيّرته.
بعد ذلك يهرب زين من بيت والده وتلقي به الصدفة مع رحيل المهاجرة الإثيوبية العاملة التي تُخفي طفلها، الذي يعتبره القانون طفلاً غير شرعي لا تعترف به السلطات ولا تعطيه أبسط حقوقه.
وزين الطفل الذي ينكره المجتمع.. فتلتقي همومهم تحت سقف واحد، ويعيش زين مع "رحيل" وابنها (يورا أهله وتختتم في يورانوس). زين الصغير الذي سيحمل المعاناة نفسها عندما يكبر.
ومشهد الطفلة السورية اللاجئة "ميسون" التي تبيع الورد من أجل أن تجمع المال وتحقق حلمها بالهجرة إلى السويد، وتعبيرها عن أحلامها بأن يكون لديها بيت وغرفة تعيش بهما، يعبر عن جيل كامل من الأطفال اللاجئين الذين تحولت أبسط حقوقهم إلى أحلام بعيدة.
اللافت في الفيلم أن جميع الشخصيات التي تم اختيارها للتمثيل أشخاص حقيقيون جاءوا ليجسدوا معاناتهم الحقيقية في الفيلم، كأنك تلمس حقيقتهم ومعاناتهم الحقيقية فلم يكن مجرد تمثيل.
صُنّاع الفيلم أيضاً لم يركزوا على إظهار البيئة الاجتماعية وكذلك هويات الشخصيات وأفكارها، لأن الهدف هو إدانة كل هذه الفوضى وكل ما تسببه من العشوائيات والفشل الذريع السياسي والأخلاقي والاقتصادي والاجتماعي للأنظمة العربية.
والمشهد الأخير يظهر لنا الحل، وذلك في آخر ربع ساعة من الفيلم. يشاهد زين برنامج الإعلامي جو معلوف "هوا الحرية"، على شاشة التلفزيون في السجن، وهو برنامج يُعنى بمعالجة المشكلات الاجتماعية. يتصل زين بالبرنامج على الهواء مباشرة، معلنًا رغبته في رفع دعوى قضائية على أهله، وهو ما يثير الرأي العام.
وتظهر المحامية نادين العلم، لتتولى المرافعة عنه في محاكمة أهله، وتختتم القضية بالحل المثالي الذي قاله زين: "بدّي ياهم ما بقى يجيبوا رسالة فحواها عتين من شد وجذب المشاهد، ومن إشباعنا بشتى أصناف الفقر والبؤس والعذاب وفوضى المخيم".
الكاتبة تريد أن تُوصِل رسالة ، فحواها "أن يتوقف الفقراء عن الإنجاب" حتى يختفي الفقر.
ولكن هذا الطرح كان سلبياً وواجه انتقادات كثيرة، لعدة أسباب، من أهمها أنه يتعارض مع أوامر الله تعالى: "ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم"، هنا التحذير والنهي الإلهيان من خوف الآباء من مجيء الأبناء في حال وجود الفقر والله تكفّل برزقهم.
ثانياً، لا يجوز أن نحمّل الفقراء مسؤولية فساد الحكومات في شتى المجالات الأخلاقية والاقتصادية والاجتماعية وغياب العدالة وعدم قدرتها على توفير أدنى الحقوق لمواطنيها.
تم إهمال وتجاهل دور الحكومات ومسؤولياتها، ومن ثم في النهاية حُمِّلت المسؤولية على عاتق الضحايا.. لحل المشكلة "توقَّفوا عن الإنجاب!".
ثالثاً، هذا ليس حلاً جذرياً لكل تلك المشاكل، هذا يعتبر هروباً منها، فعندما نتوقف عن الإنجاب سيشيخ هذا الجيل وستنتهي البشرية، من الأصح أن نبدأ بهذا الجيل الجديد الذي سيولَد بأن يقف في وجه كل تلك الأنظمة البالية، لأن هذا الجيل هو ضحيّتها الأساسية.
الجيل الجديد هو من سيصنع أملاً جديداً بتغيير الواقع، والأهم في كل ذلك أن نبدأ في التربية، أن نعزّز الجانب الأخلاقي والديني لهم، حتى يخرج جيل قادر على تغيير واقع المجتمعات، لأنّك عندما تبني لطفلك القناعة بضرورة الوقوف في وجه الظلم منذ الصغر فلن تحتاج أن تنصحه بذلك عندما يكبر.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.