بدأ منذ أيام في ألمانيا عرض فيلم "البحث عن أم كلثوم"، للمصورة والمخرجة الإيرانية شيرين نشاط، التي استعانت بشخصية الفنانة المصرية الكبيرة أم كلثوم، لتعرض مشوارها الفني الشاق المليء بالتحديات، والذي عادة ما تواجهه المرأة التي تبحث عن نجاح في مجال يسيطر عليه الرجال.
كيف حاولت هي على الصعيد الشخصي البحث عن سر نجاح "كوكب الشرق" وتسليط القصة على حياتها الشخصية لتخرج بفكرة الفيلم؟
بعد أن عُرض الفيلم في مهرجان البندقية السينمائي، كان العرض الأول له بألمانيا في السابع من شهر يونيو/حزيران 2018، بمدينة هانوفر الألمانية، وحضره "عربي بوست".
ونوهت "نشاط"، المشهورة عالمياً بأعمالها النسوية، بالمرأة في الشرق الأوسط، وتتطرقت إلى الربيع العربي وتأثيره على المجتمعات.
ولم ترغب "نشاط" في عرض الفيلم كواحد من عروض السيرة الذاتية؛ كي لا يتعرض الحضور لمشاهدة قصة واحدة من أبرز الفنانات بالشرق الأوسط في القرن الماضي وهي تتعرض لخيبة أمل، مشيرة إلى أنه فيلم ذو إنتاج عالمي، تم دعمه من العديد من الجهات الدولية، كالحكومة الألمانية والنمساوية.
ذكَّرت "نشاط" الحضورَ الألماني بأن أم كلثوم كرَّست كل حياتها لموسيقاها، وكسبت محبة الرجال والنساء والفقراء والأغنياء والمتدينين وغير المتدينين، والسُّنة والشيعة، لافتةً إلى أن أم كلثوم كانت الشيء الوحيد الذي اتفق عليه الجميع في الشرق الأوسط.
فيلم داخل فيلم
الفيلم هو تجسيد لتصوير المخرجة "نشاط" فيلماً عن مخرجة إيرانية تصور فيلماً عن شخصية أم كلثوم.
يعرض الفيلم لمسيرة مخرجة شبيهة بالمخرجة "نشاط" تُدعى ميترا في الفيلم، تلعب دورها الممثلة الألمانية من أصل إيراني نيدا رهمانيان، خلال محاولتها مع شريكها إنتاج فيلم سيرة ذاتية عن أم كلثوم، الشخصية التي افتُتنت بها، ويعرج على بحثها على فنانة تلعب دور أم كلثوم في شبابها (شخصية المعلّمة غادة تلعب دورها الفنانة المصرية ياسمين رئيس)، ويظهر المصاعب التي تواجهها المرأة حال ما أرادت التقدم مهنياً، مستعرضة علاقتهما السيئة مع ابنها جراء انشغالها بعملها، ثم اختفائه خلال تصويرها الفيلم.
ويدفع هذا الحدث المفصلي في حياة شخصية ميترا، إلى إعادة إنتاج فيلمها عن أم كلثوم، ليحوَّل من سيرة ذاتية لامرأة قوية متحررة صمدت في وجه التحديات التي يفرضها المجتمع على الفنانة، إلى رؤيتها لسيناريو مفترض يُظهر أم كلثوم ضعيفة، تدفع ثمن عملها في الفن.
لكنّ ميترا تواجَه بعدم ثقة المنتجين والطاقم العامل معها بقدراتها كفنانة والتحيُّز الجنسي ضدها، وخشيتهم من أن تحوّل مشروع الفيلم إلى عمل كارثي، إلى جانب التشكيك في قدرة سيدة غير عربية لا تتحدث اللغة على صناعة فيلم عن قامة فنية عربية.
خلال تصوير الفيلم داخل فيلم "البحث عن أم كلثوم"، تُعرض أبرز المحطات في حياة أم كلثوم وكيف اضطرت في صغرها إلى ارتداء ملابس ذكورية للتأقلم مع واقعها، ثم صعودها سُّلم النجاح الفني لتغني أمام الملك فاروق، وتعاظم دورها ليتجاوز الجانب الفني إلى السياسي منه.
تحاول شخصية المخرجة ميترا في الفيلم، كشأن المخرجة "نشاط"، البحث عن أسباب نجاح ماريا كالاس الشرق"، حيث تعاني هي الفشل.
يتميز الفيلم بمزج بصري مذهل لمشاهد من حياة أم كلثوم وأخرى لظهور المخرجة الإيرانية وطاقم الفيلم في المشهد.
أم كلثوم كانت كـ"الصخرة"عصيّة على الفشل
تحدثت المخرجة الإيرانية، المقيمة بالولايات المتحدة بعد أن تركت بلادها وهي شابة، في حوار بعد انتهاء عرض الفيلم، عن سبب اختيارها هذه الشخصية التي عملت على إنجاز فيلم عنها مدة 7 سنوات، وكيف أن هوساً تطوَّر لديها بالسيدات اللاتي لم يكن لهن تاريخ فني حافل فحسب؛ بل أيضاً عن حياة شخصيات مثيرة، كأم كلثوم التي كانت ناجحة طوال حياتها لكنها عانت كثيراً.
وقالت إن ما يخلص إليه الفيلم هو أن أم كلثوم لم تفشل قط؛ بل نجحت فقط، وأنها على خلاف فنانات غربيات آخريات، لم تدمن أو تتعرض لأذى من قِبل الرجال أو تنتحر، عكس شخصية ميترا في الفيلم أو هي نفسها، فإنها تتعرض للفشل مراراً حتى تصل لإنتاج عمل ناجح، لافتة إلى أنها لا تستطيع أن تكون قوية كشأن أم كلثوم.
وأوضحت أن ما أدركته شخصية ميترا في الفيلم هو أن أم كلثوم كانت كالصخرة، خططت للنجاح ووصلت إليه، حتى بعد وفاتها، حيث أرادت أن تُذكر بموسيقاها وليس بحياتها الشخصية أو العاطفية أو أطفالها، فيما الفنانات الأخريات كشأنها تشهد مسيرتهن صعوداً وهبوطاً، مشيرة إلى التشابه بينها وبين شخصية الفيلم، التي كانت تريد أن تكون متأكدة من أنها مثالية، ولم يسبق أن أظهرت ضعفها.
وتحدثت مخرجة الفيلم عن التضحيات التي ينبغي للنساء أخذها في الحسبان عند محاولتهن تحقيق النجاح الفني، قائلة: "إن الجزء الأساسي من هذا الفيلم يرتكز على السؤال: هل يُسمح للمرأة إن كانت فنانة أن تُظهر ضعفها للجمهور؟
قامت "نشاط" بإجراء مقابلة مع عائلة أم كلثوم كابنها المتبنَّى، وسألتهم فيما إذا كانت أم كلثوم تشعر أحياناً بأنها ليست على ما يرام، فأجابوها بأنها كانت تصاب بالاكتئاب والإحباط عدة مرات، لكنها كانت تذهب إلى غرفة نومها أو تنزل إلى قبو المنزل، ولم تكن تخرج أياماً، ولا تتحدث لأحد، مشيرة إلى أنها كانت تريد أن تدخل التاريخ بالصورة التي كانت عليها ونجحت في ذلك، معبرة عن اعتقادها أن قلة يستطيعون فعل ذلك.
علاقاتها العاطفية مثيرة للجدل في مصر..
أم كلثوم لم تتزوج، لتشير إلى تضحيتها بكل شيء من أجل مسيرتها الفنية، وأن ذلك يناقض حقيقة أنها كانت متزوجة، فترة طويلة، بطبيب الأمراض الجلدية حسن الحفناوي، وقالت "نشاط" إن من يسأل في مصر عن الحالة العاطفية لأم كلثوم، يحصل على إجابات مختلفة، يقول بعض الناس هناك إنها كانت مثلية، وآخرون إنها أحبَّت رجلاً لم تحظَ به قط، وآخرون إنها تزوجت طبيبها في نهاية حياتها؛ لوجود شائعات عن كونها مثلية، لكن الحقيقة أنها عاشت مع زوجها في النهاية، مؤكدة أن لا أحد يعرف حقيقة علاقاتها العاطفية.
كانت أم كلثوم معشوقة من الجماهير المصرية وفي الوطن العربي بشكل عام، ورداً على سؤال طرحته عربي بوست على المخرجة فيما إذا كانت السياسة أثرت على حياتها الفنية أيضاً على حد كبير، ترى المخرجة أن أم كلثوم كانت محبوبة من بلدها، لكنها هي شخصياً غير محبوبة من حكومة بلادها، بل من الشعب الإيراني كشأن بعض الحضور، وأن الأمر الذي تشتركان به، هو أن السياسة حددت مسارهما المهنيين، فما كانت لتصبح هي فنانة لولا تأثير الثورة الإسلامية في إيران على حياتها الشخصية، في إشارة إلى بقائها خارج البلاد وعدم رضا الحكومة عنها، مشيرة إلى أن مسيرة أم كلثوم الفنية بالمقابل تأثرت كلياً بما حدث في مصر من الاستعمار في الثلاثينات والأربعينيات والثورة الاجتماعية في الخمسينيات.
وعن الانتقادات التي وردت على لسان أحد الشخصيات في الفيلم لأم كلثوم عن ابتعادها عن الطبقة الشعبية وغنائها للملك، قالت "نشاط" إن هناك من ينتقد أم كلثوم لتقرُّبها من القادة السياسيين، وكيف استغلوها واستغلتهم، لكن رغم ذلك، يبقى هذا جزءاً من تاريخ "ملكة مصر".
لماذا لم تصور الفيلم في مصر؟
ولم يمضِ إنتاج فيلم "البحث عن أم كلثوم" بسهولة، حيث كشفت المخرجة أن ممثلة إيرانية وقع عليها اختيارهم لتجسد دور المخرجة في الفيلم، ألغت مشاركتها قبل 3 أيام فقط من بدء التصوير؛ لأنه لم يُسمح لها بمغادرة إيران للعمل معها، لكن الحظ حالفهم بالعثور على الممثلة الألمانية من أصل إيراني نيدا رهمانيان.
وعن سبب التصوير في المغرب وفيينا، وليس بمصر، وعما إذا كانت هناك مشكلة، أكدت أنهم لم يكن لديهم مشكلة مع إيران فحسب؛ بل مع مصر أيضاً، موضحة أنه بعد الثورة ثم تولي عبد الفتاح السيسي السلطة، أصبح أخْذ الأذن بالتصوير مشكلة، مضيفة أنه من جانب آخر، الفيلم ألماني وكانت شركة التأمين الألمانية لا تمنح تأميناً للتصوير في مصر؛ لذا لم يكن بإمكانهم الذهاب لمصر لإنتاج الفيلم.
وبيَّنت أن تصوير الفيلم بالمغرب أعطاها نوعاً من الحرية في العمل؛ لأنها لم تكن محاطة بمصريين يقولون لها إن الأمر ليس على هذا النحو مثلاً، مشيرة إلى تصويرها فيلمها الفائز بجائزة الأسد الفضي بمهرجان فينيسيا في عام 2009، "نساء من دون رجال"، صوَّرته في المغرب على أن الأحداث تدور في إيران.
ردود فعل المصريين على الفيلم
وعلى الرغم من عدم تصوير الفيلم في مصر، فإنه عُرض في كل من القاهرة وأسوان ولبنان، بحسب المخرجة.
كانت الفنانة "نشاط" تخشى من ردود فعل المصريين؛ إذ قالت إن فئة كبيرة كانت متوقعة أنه فيلم سيرة ذاتية، إلا أنه في الوقت نفسه قدَّر الكثيرون حسن نوايا صانعي الفيلم، وكونهم اهتموا بجودة الموسيقى في الفيلم، وبزي أم كلثوم وبطريقة تصفيف شعرها والمعلومات التاريخية، لكن بوسعهم القول إنه فيلم صنعته إيرانية وصُور في المغرب؛ لذلك لم يكن مخصصاً لفئة كبيرة من المتابعين في مصر.
تردُّ المخرجة الإيرانية على بعض العرب المشتكين لإنتاجها فيلماً عن أم كلثوم رغم أنها إيرانية لا تتحدث العربية، بأن أم كلثوم تجاوزت حدود ذلك المكان لتكون مِلكاً ليس للمصريين والعرب فحسب؛ بل إنها كشأن كل الفنانين والفنانات العظام، مِلك للعالم أجمع، معبِّرة عن أملها في أن يطور الجمهور الغربي علاقتة مع موسيقى أم كلثوم، وإن كانت مختلفة عما يشعر به العرب حيال فنها.
وعن الجمهور الذي صنعت هذا الفيلم له، قالت إنها فكرت بالبداية في توجيه الفيلم إلى الجمهور الغربي، لكنها ذهبت به ليكون موجِّهاً للجمهور العربي والشرقي عموماً، ولو أنها توقعت أن يرميها الناس بالبيض هناك (مازحةً)، لكنها أدركت أن الجمهور الحقيقي للفيلم لن يكون في الغرب؛ بل بالشرق؛ لأنهم يعرفون الموسيقى جيداً، مستشهدةً بعرض الفيلم في تونس، وكيف رأت الجمهور الذي يشاهد مقطعاً موسيقياً من الفيلم يغني مع شخصية أم كلثوم في الفيلم، وكان بعضهم يبكي، فكان شيئاً لا يصدَّق بالنسبة لها.
وأخذت صحفيات ألمانيات على الفيلم لعب قصة حياة أم كلثوم الحقيقية دوراً ثانوياً فيه، رغم الاسم الذي يحمله، وعدم تمكُّن صانعته "نشاط" من تقريب شخصية هذه "الأيقونة العربية" للمشاهد الغربي.
فقالت الصحفية في راديو "إس في إر"، إن المرء لا يعلم عند مشاهدة الفيلم بالعقبات التي توجَّب على أم كلثوم تجاوزها في مسيرتها المهنية، ولا ماهية هذه الإنسانة؛ إذ لم تَظهر سوى وهي تغني وسط التصفيق، ويحكي الفيلم عن حياة "نشاط" نفسها أكثر من شخصية "أم كلثوم".
وكتبت الصحفية غابريلا زومن، في موقع "شتيمه"، أنه للأسف، لا يتمكن المشاهد الغربي، الذي لا يكون قد سمع باسم أم كلثوم، من استيعاب فيلم "نشاط" المفرط في الطموح، مضيفة أن القصة لا تبدو -ببساطة- بذلك التشويق المفترض في فيلم سيرة ذاتية بسيط عن هذه المغنية الغامضة، التي سبقت عصرها.