مطالعة التاريخ لها متعة آسرة، وقد كانت مطالعة التاريخ من قبل ليس لها إلا طريق واحد هو طريق الكتب والمراجع، أما الآن فالطرق متنوعة للمطالعة التاريخية، إما الكتب والمراجع، أو الاستماع لمحاضرين في السرد التاريخي، أو مشاهدة الأفلام الوثائقية التاريخية، أو مشاهدة الأفلام السينمائية التاريخية، أو الدراما التاريخية التلفازية.
فأما عن الكتب والمراجع فهي طريق الخاصة من المثقفين والباحثين، فلم تعد القراءة سلوكاً عاماً، وكذلك لم تكن من قبل.
وأما عن طريق الاستماع للمحاضرين الذي يحاضرون في التاريخ والسّيَر، فهو طريق يكاد يتجاوزه الزمن، فعصر (شريط الكاسيت) قد ولَّى تماماً، وهو العصر الذهبي للمحاضرات والخطب، وكذلك لم تعُد المحاضرات المصورة جاذبةً للناس.
وأما عن الأفلام الوثائقية التاريخية، فهي رغم إبهارها ومتعتها، تخاطب الخاصة هي الأخرى، وتشبه إلى حد كبير الكتب والمراجع والمصادر في جمهورها.
وأما عن الأفلام السينمائية التاريخية، والدراما التلفازية التاريخية، فهي وسيلة العصر؛ الوسيلة التي تخاطب الخاصة والعامة على السواء.
يتحدث بعض أهل الأدب عن أننا أصبحنا في عصر الرواية، التي زحزحت الشعر عن مكانته وسلطانه في الحياة الأدبية العربية.
والحقيقة أننا في عصر الصورة (سينما وتلفاز)، والصورة هي التي زحزحت حقاً كل الأشياء الأخرى عن مكانتها، فلم نعد في عصر الشعر، ولا في عصر الرواية، ولا في عصر المقالة، ولا في عصر الكتب والقراءة بالمجمل.. نحن في عصر الصورة، ولا غير.
ولذلك فقد حاول دعاة الوسطية والتيسير الإسلامي أن يحثّوا الإسلاميين على التوغل في هذا المجال الطاغي على الحياة المعاصرة، وأفتى فقهاؤهم وعلى رأسهم الشيخ يوسف القرضاوي، للممثلين المعتزلين بعدم ترك المجال والاستمرار فيه، مع تقديم الأعمال الهادفة البعيدة عن الإسفاف والعُري.
وكان موقف دعاة الوسطية والتيسير في مقابل موقف دعاة التشدد والغلو، الذين كانوا يفتون بحرمة التمثيل والفن من الأساس، وأظنهم لا يزالون يفتون بذلك.
لما أُعلن منذ أكثر من عام عن مسلسل حريم السلطان، تشوفت له وارتقبته، رغبة في مشاهدة الدراما التي تجسد حياة ذلك السلطان العظيم (سليمان القانوني)، الذي يمثل ذروة المجد والقوة والعظمة للدولة الإسلامية العثمانية.
فلما بدأ المسلسل في العرض، وجدت إسفافاً، وتركيزاً على دور النساء في حياة السلطان، فأعرضت عنه.
كان ذلك في الأجزاء الأولى، فلما جاءت الأجزاء الأخيرة، اهتمت القصة بالصراع السياسي في السلطنة، فكانت أجزاء جميلة وممتعة، على الرغم من أن المسلسل قد قام على إنتاجه وإخراجه وكتابة قصته علمانيون، لكنهم لم يشوّهوا الصورة بالكلية، وربما كان ذلك للدوافع القومية والعِرقية عندهم، فهم أتراك في النهاية، وهذه الحقبة التاريخية كانت حقبة العظمة التركية، وحقبة عظمة القادة الأتراك.
ولما أُعلن عن مسلسل قيامة أرطغرل قلت: هو ذاك، مسلسل تاريخي بإنتاج إسلامي، يقوم عليه حزب العدالة والتنمية الإسلامي الحاكم.
وبدأ الناس في الحديث عن المسلسل بانبهار شديد، وكُتبت عنه المقالات، فتشوقت له أكثر، وكنت حينها أنتظر أن يُدبلج بالعربية. ثم دبلج بالفعل، وبدأت إحدى القنوات في عرضه.
ولما شاهدت حلقاته الأولى أُعجبت به أيما إعجاب، حتى إنني كتبت مقالاً حينها بعنوان (قيامة أرطغرل.. متعة التاريخ وسحر الدراما).
وأخذت أتابع المسلسل حلقة بعد حلقة، وشهراً بعد شهر، وقد أتممت الآن عاماً وأنا أشاهده، ولم ينتهِ بعد، وهنا كانت الصدمة.
ما هذه الإطالة السخيفة والإطناب البئيس، عام كامل نتابع حلقات مسلسل تاريخي قائم على تأليف مؤلفه ومخرجه، فتاريخ شخصية أرطغرل لم يسجل ويوثق كما ينبغي، ولذلك فأغلب حكايات المسلسل هي من تأليف المؤلف والمخرج.
وأغلب ظني أن المؤلف والمخرج كانا يجلسان معاً، بلا قصة معلومة البداية والنهاية، يجلسان معاً ويقرران أن تسير القصة هكذا، ثم يجدّ لهما جديد، فيذهبان بالقصة هكذا وهكذا.
المسلسل من أوله إلى آخره صراع حربي بين أرطغرل وقبيلته (الكاي) مع أعداء صليبيين وعملاء لهم من قلب القبائل التركية.
يتغلب أرطغرل على عدوه الصليبي ويقتله هو وعملاءه في القبيلة، فيُخرج لنا المؤلف والمخرج عدواً صليبياً جديداً، معه عميله في القبيلة كذلك، وهكذا من عدو صليبي لعدو صليبي، ومن خائن إلى خائن ، نفس الحكاية تتكرر ألف مرة، تتكرر بكل أبعادها تقريباً.
المسلسل جيد في روحه الإسلامية العامة، لكنه من الناحية الفنية مسلسل به الكثير من المآخذ التي تعيبه.
مطّ وإطالة إلى حد السخف، مخرج ومؤلف يخرجاننا من حكاية إلى ألف حكاية أخرى مماثلة، ولا جديد، مع معارك حربية لا تتوقف، هي معارك لعصابات صغيرة العدد والعدة.
أخطاء إخراجية بالجملة، قصة هي من بنات خيال مؤلفها، ولا تعتمد على أي توثيق تاريخي إلا في خطوط عامة قليلة.
مبالغة في رسم شخصية أرطغرل الأسطورية، وحشر لشخصية ابن عربي، القطب الصوفي الكبير، الذي لم تكن له في الحقيقة أي ملازمة لأرطغرل، حتى وإن تعاصرا.
نجلس أنا وزوجتي وأبنائي أمام المسلسل كل يوم، منذ عام تقريباً.
لا تزال زوجتي، ولا يزال أبنائي، ينتظرونه بشغف، ويشاهدونه باهتمام بالغ.
وقد أصبحت أجلس بينهم، فأتشاغل عنه بالقراءة، ولا أنتبه له إلا عندما أسمع موسيقى نهايته، حتى أطلب من أبنائي الذهاب للنوم، وأبدأ في مشاهدة بعض القنوات الأخرى، والانتقال فيما بينها.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات عربي بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.