– كيف تفوز بالجائزة الأولى في أول ظهور لك؟
الفيلم الحاصل على جائزة النجمة الذهبية لمهرجان الجونة السينمائي في دورته الأولى، والحاصل على جائزة الصندوق العربي للثقافة والفنون، كما تم دعوته وعرضه في عدة محافل سينمائية عالمية، منها مهرجان نيويورك للفيلم العربي وملتقى مارسيليا بفرنسا ومهرجان القاهرة السينمائي. بمجرد ظهوره تجاوز عدد مشاهدات الـ(تريلر) الخاص بالفيلم حاجز المليون مشاهدة في أقل من أسبوع على صفحات التواصل الاجتماعي.. من أين نبدأ؟
يقول المخرج الكبير هيتشكوك: "ليس المهم ما تحكيه، ولكن المهم كيف تحكيه".
لكن كيف نحكي قصة شديدة العادية عن رجل مسن تجاوز الستين، يعيش وحيداً في إحدى عمارات حى عبده باشا بالعباسية، ويملك محلاً للكتابة على الكمبيوتر وطباعة الأبحاث.
ما المثير في قصة حياة هذا الرجل المغمور الذي حتى لا يعرف جيرانه اسمه الحقيقي فلقبوه بـ" محمود فوتو كوبي" منذ كان يعمل في مجلة الهلال كاتباً على الآلة الكاتبة في قسم الجمع؛ حيث يقوم بتحويل المقالات المكتوبة بخط اليد إلى مقالات يمكن طباعتها.
هنا يكمن التحدي الذي خاضه صنّاع الفيلم.. أعتقد أننا لسنا بحاجة إلى تغيير حياته إذا كنا نملك القدرة على رؤية غير العادي في العادي.. لسنا بحاجة إذا كنا نملك بصيرة يمكنها أن تستخلص من الروتين الذي استنزف حياته تفاصيل بسيطة تجعل للحكاية بعداً يجعلها باقية طالما أنها قابلة لأن تروى.
يسكن محمود في نفس العمارة التي تسكن بها (الست صفية) السيدة العجوز التي تعاني من أمراض الشيخوخة والسكر، فضلاً عن أنها أتمت علاجها من مرض سرطان الثدي بعدما اضطرت إلى استئصاله.. تعيش الست صفية بمفردها منذ وفاة زوجها وسفر ابنها إلى الخليج منذ عدة سنوات حتى تملكتها الوحدة والخوف من أن تموت ولا يعرف أحد خبر وفاتها إلا بعدما تفوح رائحة جثتها.. تعاني انتظار الأشياء التي لا تأتي.. تنتظر عودة ابنها فلا يأتي.. تنتظر أغنية ما في فقرة فريد الأطرش بالإذاعة فلا تأتي.. تنتظر من يأتي لينقذها من الهواجس المخيفة والوحدة القاتلة.
ينقل لنا صنّاع الفيلم حالة إنسانية رائعة مليئة بالتفاصيل وينقلنا الفيلم (بهدوء كادراته وجمال موسيقته وديكوراته) إلى عالم منسي تماماً ومغاير لعالمنا الذي اعتدنا عليه وسط زخم الأحداث اليومية ورتم الحياة السريع ومتطلباتها التي لا تنتهي ويشير لنا عن عالم بسيط لا تملأه الأحلام الضخمة ولا الرغبات الشرهة.. عالم خالٍ من الحب الجنسي الذي تحركه الهرمونات ومليء بما يشبه الحب الصوفي الزاهد الذي لا يملك أي أغراض خفية.. هذا العالم ملك لهؤلاء الذين توقف لديهم الشعور بالزمن وانتهت رغبتهم في الدخول في أي صراعات تخص الحياة وارتضوا أن يكونوا على هامشها حتى لو كان ثمن ذلك أن يصبحوا كالديناصورات.. مهددين دائماً بالانقراض.
الأمر الأكثر منطقية أننا نشعر بمرور الزمن بما حدث لنا من تغيرات في هذا الزمن حتى ولو كان تغيراً للأسوأ.. ولا نشعر به بمراقبة عقارب ساعة الحائط ونحن معزولون عن الحياة.. ولكنه في كل الأحوال الزمن يمر دون انتظار.
يدرك محمود أن حياته قد أوشكت على الانتهاء أو بالأحرى يشعر أنها سرقت منه قبل أن يعيشها.
يقول محمود: "أنا كنت بشتغل 18 ساعة في المجلة وأرجع أنام وأصحى تانى يوم أروح الشغل.. وفضلت كده 35 سنة لحد ما طلعت ع المعاش".
فيقرر محمود أن يعيد حساباته ويرفض أن يستسلم لفوات العمر أو أن يكون ديناصوراً على وشك الانقراض بعدما تحركت مشاعره البسيطة تجاه (الست صفية) باحثاً فيها عن الونس فيفاجئها أثناء عودتها من الصيدلية وسط الشارع ليقدم لها وردة حمراء بمناسبة عيد الحب يعبّر لها عن إعجابه بها ورغبته في اصطحابها إلى السينما.. هكذا بأداء بالغ البساطة وبقليل من الكلمات وكثير من كلام العيون بدأت حكاية (محمود وصفية) ومحاولة استعادة الحياة.
عندما ذهبت لمشاهدة الفيلم في إحدى دور العرض السينمائي وجدته قد تم رفعه بعد أسبوعين فقط من عرضه بالرغم من أن الفيلم قد تفوق في إيرادات شباك التذاكر على الأفلام المعروضة معه وقتها فيلم (رغدة متوحشة) و(طلق صناعي).. وحزنت جداً لرفع الفيلم ولم أفهم السبب وقتها.. مرت عدة أسابيع وعرفت بالصدفة أن الفيلم سيتم عرضه في جمعية النقاد السينمائيين بالقاهرة بحضور مخرج وكاتب الفيلم فقررت ألا أفوّت الفرصة هذه المرة، واعتبرتها تعويضاً من القدر عما حدث.. وبعد انتهاء العرض وبدء ندوة النقاش توالت ردود الفعل الإيجابية حول الفعل والتقيت مخرج الفيلم الأستاذ تامر العشري، وسألته عن سر الاختفاء المفاجئ للفيلم بدور العرض بعد أسبوعين فقط، قال لى نصاً: "إحنا نفسنا فوجئنا برفع الفيلم بقرار من شركة التوزيع". وأضاف: "أن ما حدث جزء من خناقة كبيرة دايرة في سوق صناعة السينما في مصر"، فهمت ما يعنيه تامر جيداً ثم قال لي: "رهاننا على الفيلم إنه ينجح لما يعرض في القنوات التلفزيونية وإنه يعجب الناس ويعيش".
*************
* كيف تفوز بالجائزة في أول ظهور لك؟
يمكننا الإجابة عن هذا السؤال؟ ببساطة إذا تأملنا تجربة مخرج الفيلم تامر العشري، والمؤلف هيثم دبور والمنتج صفي الدين محمد الذي قرر أن يخوض مغامرة إنتاج فيلم يبدو أنه قد لا يلاقي نجاحاً في شباك الإيرادات، فالفيلم ليس من بطولة أحد أبطال الكوميديا مثل: هنيدي ولا يحمل في أحداثه ضابط شرطة جسوراً يحارب الإرهاب والعصابات الإجرامية، مثل محمد رمضان وليس من بين مشاهده وصلة رقص لإحدى الراقصات بأحد الأفراح الشعبية.
ومع ذلك قرر صفي أن يقوم بإنتاج الفيلم؛ لإيمانه بموهبة تامر وهيثم، اللذين لا يعتبر الفيلم أول تعاون مشترك بينهما، فتامر الذي تخرج في كلية الإعلام قادم إلى عالم السينما من خلفية تسجيلية تهتم برصد التفاصيل البسيطة المتكررة في حياة الناس العادية التي تملأ الشوارع، في حين أن هيثم قادم إلى عالم السينما من خلفية صحفية تهتم بكتابة حكايات المهمّشين وإبرازها في شكل إنساني متكامل بكل ما فيه من صواب وخلل، بعيداً عن قصص النجاح النموذجية المملة، من هنا يأتي التجانس والانسجام الضروران لنجاح أي عمل.. جمعهما معاً بعض الأفلام التسجيلية القصيرة وفي هذا العمل كان حب (محمود لصفية) هو المفتاح الذي أدرك دبور أنه يمكن أن يكون الخط الرئيسي الذي تدور حوله الحكاية؛ لقدرته على إظهار الخطوط الأخرى الثانوية مثل الصراع مع الوحدة والانتظار والخوف عند صفية / والصراع مع الروتين والخوف من أن تنسى كأنك لم تكن، فضلاً عن سوء أحوال المعيشة عند محمود في حبكة درامية بالغة الإحكام وسط إطار من كوميديا الموقف المغزولة بعناية واحترافية والتي غابت عنا لسنوات -في مقابل انتشار كوميديا الإفّيه- أذكر أن آخر ظهور لكوميديا الموقف في السينما كان عام 2000 في فيلم الناظر المادة الخام لكوميديا الموقف والمورد الأول للمقاطع والصور الساخرة على صفحات التواصل الاجتماعي.
أيضاً من الأسباب التي جعلت الفيلم يحظى بكل هذا النجاح هو حسن اختيار الممثلين ودقة الأداء لديهم.. شيرين رضا التي قامت بدور الست صفية جاء أداؤها مفاجئاً للجميع، لكنني هنا أفضّل سرد مساحة خاصة للحديث عن العملاق محمود حميدة في دور محمود فوتو كوبي.
يشبه محمود حميدة في مشواره الفني لاعب كرة قدم فذ الموهبة استطاع أن يخطف الأنظار منذ اللمسة الأولى للكرة.. بعد مباراة واحدة ستحفظ اسمه جيداً وستنتظر نزوله إلى أرضية الملعب بفارغ الصبر، وربما ستجده حلاً لمشكلة فريقك وتحسين موقفه، لكنك ستفاجأ بأنه تعثر في شيء ما عطله عن المشاركة في المباراة.. بعدها تقرأ في الجرائد أن اللاعب قد أمتع الجميع في المران اليومي للفريق بلمساته الساحرة، لكنه خالف وجهة نظر مدربه فقرر معاقبته بحرمانه من خوض المباراة التالية.. وبعدها تكرر المشهد مرات عديدة وسط حجج مختلفة حتى أصبح حميدة لعيب الربع ساعة الأخيرة.. وحصره المدربون في هذا الدور ربما لتفرده الذي لا يخدم خطة المدرب أو ربما لصدامه مع أحد زملائه الأقل منه مهارة والأقل منه قدرة على قيادة الفريق، وبالرغم من ذلك اختاره المدرب كقائد للفريق على حساب حميدة.
لم يرَه الناس بطلاً لإحدى المباريات لكن ظل اسمه يتردد بين كل المتابعين المدققين لأدائه كبطل لديه أجمل اللمسات الساحرة للكرة ربما يستغلها الاستغلال الأمثل يوماً ما.
لحسن الحظ فإن السينما ليست ككرة القدم.. في السينما يمكن أن تكون ممثلاً شاباً ثم تكبر فتصبح الممثل القدير.. في كرة القدم إذا كبرت عليك أن تعتزل.
بحلول "فوتو كوبي" كانت هذه اللحظة المنتظرة التي أبهرنا فيها حميدة بكل لمسات الكرة التي ادخرها لسنوات.
اختار صنّاع الفيلم وأبطاله الحقيقيون أن يعلنوا انتصار محاولات محمود في إقناع صفية بالزواج وإنجاح محاولاتهم في الاستعادة المشروعة لحياتهم المؤجلة مرة أخرى؛ ليعلنا معاً التمرد على الموت السابق لميعاده والتخلص من الوحدة، والخوف إلى الأبد؛ لينتهي الفيلم بمشهد يعتبر نموذجاً في البساطة التي تنبض بالسعادة والونس؛ حيث يجلس كل من محمود لابساً (عباءته الكستور المقلم) وصفية التي تلبس (عباءتها البيضاء)؛ ليتناولا معاً كوباً من الشاي في الصباح بعدما تناولا وجبة الإفطار وهما محاطان بزهريات الورود وبجانبهما (كاسيت) ينتمي لحقبة الثمانينات وفريد الأطرش يسلطن بعوده ويغنّي: "قلبي ومفتاحه".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات عربي بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.