بين قيامة أرطغرل وسقوط عبد الحميد

هل يبقى حالنا حال المشاهد المتفرج فقط، أم يتجاوز تأثير هذه الأعمال ذلك فنرى جيلاً يسعى إلى أن يكون كهؤلاء العظماء؟

عربي بوست
تم النشر: 2018/01/30 الساعة 01:22 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/01/30 الساعة 01:22 بتوقيت غرينتش

بينما أجلس أمام شاشة التلفاز في يوم عطلتي، أبحث عن عمل هادف أشاهده على المنصة العالمية Netflix، التي غالباً أبحث فيها عن الأعمال الوثائقية أو الأفلام التي تعرض قصصاً حقيقية، تكون دائماً من إنتاج الغرب؛ إذ بي ألمح في قائمة الأعمال العالمية الأكثر رواجاً على هذه المنصة مسلسل من إنتاج بلادنا، اسمه Resurrection: Ertugrul! لم أصدق للحظة، أنه مسلسل قيامة أرطغرل الشهير! هل أخيراً استطعنا أن نصل بعمل درامي إلى العالمية؟ المسلسل متاح بالنص التركي والترجمة العربية والإنكليزية والإسبانية والبرتغالية! ربما لا يدرك أهمية ذلك من يعيشون في الدول العربية، فالمسلمون في الغرب لا يجدون أعمالاً درامية هادفة تزرع القيم، والآن أصبحت متاحة لهم بجودة عالية الدقة وبعدة لغات.

لقد كانت بعض القنوات الدرامية سابقاً ترفع شعار "لن تستطيع أن تُغمض عينيك"، إلا أنني حقيقة لم أكن أفتح عينيّ على قنواتهم حتى أغمضهما، إلا أنه بشهادة أغلب مَن شاهدوا مسلسل قيامة أرطغرل، وعلى الرغم من طول حلقاته، إلا أنه قادر على أن يسلب النوم من عينيك، وتنتظر حلقاته ذوات الساعتين طيلة الأسبوع، وربما تختار أن تكون هاتان الساعتان هما وقت العائلة المفضل الذي يجتمعون فيه يتناولون الطعام ويشاهدون الحلقة المرتقبة.

وتصميم الحلقات بهذا الطول يجعلك تشعر أنك تعيش مع الأحداث، ولا تتعجب مثلاً إن كنت في أول شهر رمضان ثم وجدت المسلسل يعيش معك في الشهر نفسه، يصوم الممثلون ويفطرون ضمن أحداث المسلسل وكأنكم تعيشون في الزمن نفسه، أو تجد نفسك في ذكرى عاشوراء ثم تجدهم يوزعون حلوى العاشوراء داخل الإطار الدرامي للمسلسل، فلا تدري أهي مصادفة أم مقصودة كي تجذب المتابع أكثر وتجعله يشعر أنه يعيش داخل أحداث، وليس مشاهداً فقط!

عن قيامة أرطغرل:

في الحقيقة مسلسل قيامة أرطغرل يبدو أكبر من عمل درامي عادي، تستطيع أن تفهم ذلك حين ترى في ذكرى فتح إسطنبول العام الماضي المحارب تورغوت والمحارب بامسي "أشهر أبطال المسلسل" يحكيان ببراعة قصة الفتح، ثم يصعد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المنصة على موسيقى المسلسل! ستفهم ذلك إذا سمعت تتر المسلسل في الشوارع، وإذا رأيت الرئيس بنفسه يذهب لموقع تصوير المسلسل، ويمتدح العمل والقائمين عليه في كل فرصة.

إن هذا العمل الفني يهدف إلى زرع القيم الإسلامية في شعب تغلغلت العلمانية في جذوره، ويهدف إلى رفع الروح الإسلامية – بجانب النزعة القومية- مع الاعتزاز بالأجداد العثمانيين الذين حكموا الأرض، فيشد الناس إلى التُّرك الذين حكموا العالم بدلاً من أن ينتهي تاريخهم عند مصطفى كمال أتاتورك الذي قد رسخ في أذهان الأتراك أنه مؤسس تركيا الحديثة.

إن روح العزة والأنفة والمجد وحمل همة الأمة والسعي إلى استعادة مجدها ونصرة المظلوم وجهاد الظالم والثبات على الحق مهما كانت النتائج، وتحمّل كل المشاق التي تتبع ذلك، من الاغتراب وترك الأوطان والأهل، والوقوع في الفتن الواحدة تلو الأخرى في سبيل ذلك، لهي أهم الرسائل التي يغرسها هذا العمل الفني الرائع في نفوس مشاهديه، خاصة في زمان ترى فيه انتصار الظالم الفاسق على المظلوم المؤمن، وكثرة أهل الباطل وقوة شوكتهم وضعف أهل الحق وانكسارهم.

إن في المسلسل تعزيةً لنفوس جريحة عاشت دهراً ولم ترَ للمسلمين عزةً ولا انتصاراً، فوجدت في هذا العمل ضالّتها، وكان كالمسكِّن لآلامها، فإذا بها تهرب من الواقع لتعيش في خيال المسلسل وهي راضية به، وإن أيقنت أنه مجرد خيال!

عندما تشاهد مسلسل أرطغرل تحد جملاً مثل: "لا يُقطع الأمل من الروح التي لم تخرج"، "إلى أن ننشئ وطننا الخاص وعدالتنا الخاصة بنا فنحن محكومون بما نعيشه هذا"، "إن نظرة المحارب أحدّ من سيف الجبان"، "إن ما لم يقطعه اللسان تقطعه السيوف"، "كل شبر من الأرض فيه القرآن هو خيمتنا"، "صديقك الوحيد هو نفسك في طريق الجهاد"، "من ليس له أحلام ليس له مستقبل"، "إن الصبر علاج لكل شيء"، "الذي لا يحب الناس هل يمكنه أن يحب الله؟"، "بوجود الله لا يوجد همّ"، "طالما القلب يحب الخالق فهل يبقى به حزن؟"، "الشيئان اللذان يجعلان الإنسان رذيلاً في الدنيا والآخرة هما الظلم والخيانة"، "إن الله جعل القرآن مخاطباً لنا وإذا لم أقرأه لم أتمكن من معرفة طريق الصواب"، "نحن سنستمر في الكفاح من أجل الوصول إلى مكاننا في الطريق الذي نعتقد أنه الحق"، "عندنا لا يكون النصر بالحجم والقوة، من يكون الله معه هو الذي ينتصر"، "سيضيء إيماننا في ظلام الليل"، "سنحاول منع الظلم بكل ما لدينا من قوة، لكننا لن نسمح للظلم بأن يحولنا إلى ظلمة"، "الحمد لله الذي ملأ قلوبنا بالإيمان"، "الحي هو الله، الحق هو الله"، "بينما يعاني أبناء أمتنا وأبناء ديننا، هل يمكننا أن نؤمن بجنة مطمئنة مزيفة؟".

وما أجمل قصص دلي ديمير التي كان يرويها لأطفال التركمان من قبيلة الكايي ليربّيهم على نهج العظماء مثل علي بن أبي طالب، وألب أرسلان، وما أجمل أن يختم القصة بقوله: "في النهاية كان النصر من نصيب الجيش الذي يؤمن بالله تعالى ويسعى إلى تحقيق العدالة".

عن مسلسل السلطان عبد الحميد "العاصمة":

على الصعيد الآخر يأتي مسلسل السلطان عبد الحميد الذي يظهر روعة هذا السلطان العظيم الذي تسلّم دولة مهترئة مدينة ومقيدة بمعاهدات وقوانين وضعها أسلافه، لكنه يقاوم بقوة سقوط الدولة ويجتاز المؤامرة تلو الأخرى، ولا يكاد يرتاح برهة من الزمن، ورغم ضعف الدولة فإنه يرفض أن يضع كائناً مَن كان شروطاً على الدولة أو يذل أبناءها، والدولة هنا كل أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويثور إذا رأى اعتداء على شخص رسولنا الكريم حتى يُجبر الدول المعتدية على الاعتذار.

عندما تشاهد مسلسل عبد الحميد ترى عبارات مثل: "لا غالب إلا الله"، "من يعبثون مع المسلمين، سيتذوقون الموت في أكثر لحظة لا يتوقعونها، والموت يأتي فجأة"، "إما أن نصبح ذئاباً ونطرد الثعالب أو نصبح غنماً ونُحكم إلى أن نهترئ"، "لا تنسَ هذا يا بني، طالما الدنيا تدور، من يؤمنون بالله هم مَن سينصرون، لا يُغلب من يؤمن بالله أبداً"، "إذا لم تعملوا من أجل أنفسكم، فسيأتي أحد ويشغلكم من أجل نفسه"، "طالما نحن واقفون على أقدامنا سنسعى إلى مسح دموع المظلوم، من كل الأمم والأديان"، "إن زال ظل الهلال الذي على آيا صوفيا ولم يصارع هذا الشعب من أجل إعلاء هذا الهلال هناك، فويل لهذا الشعب وويل لآخرته!"، "مكة حرم الله، المدينة حرم رسول الله، القدس حرم المؤمنين، الله ورسوله يحافظان على حرمهما ويحميانهما، فهل نحن سنستطيع حماية حرمنا؟ طالما نحن موجودون فالقدس لن تسقط".

"اطرد اليأس واحلم، أنت موجود طالما أنك تحلم"، "من جبل طارق حتى جزيرة جاوة دولة واحدة، لا حدود لها، أمة قد آمنت، أمة واحدة، الأمة الإسلامية، شعب الكون الذي يتظلل تحت علم الخلافة، ولا يعبد فيه العبد عبداً، سماء بيضاء لا يصمت فيها الأذان ولا تسقط منها الراية، أراض مباركة تسقيها الأنهار، جيش مجهز بأحدث الأسلحة، يطارد العدو بكل لحظة وقلبهم يرتجف بحب الله، جيش الرحمة في السلام، وجيش الموت في ساحة الحرب، هذه هي خارطتي وهذا حلمي، ربما اليوم وربما بعد قرن، ولكنه حلم سيتحقق حتماً، إن كان هناك مَن سيتعب في هذا الطريق فليغادر الآن"، "يهينون سيدنا فخر الكون، ليهاجموني لا يهمّني، ولكن إن هاجموا ديني ورسولي، أحارب وأنا أموت، أسحب السيف وأنا أسلم روحي، حتى وإن قطعوا رقبتي وقطعوا لحمي إرباً إرباً؛ لكي أستطيع النظر إلى وجه رسول الله في الآخرة أصبح رماداً وأنبعث من رمادي وأحارب"، "الآسيوي، الهندي، الإفريقي، الأوزبكي، القرقيزي، البوسني، الألباني، التركي، الكردي، يطوفون في أطراف الكعبة، يهمسون لبعضهم هكذا: "أخي"، نحن أبناء الإسلام الذين تم ردنا عن عودتنا إلى أصلنا وقلبنا وإيماننا، متى سنفهم بعضناً بكل ما تحمله الكلمة من معنى؟ ومتى سنعانق بعضنا ونحمل راية الإسلام الساقطة؟".

لقد لخّصت تركيا في هذين العملين تاريخها العثماني منذ نشأتها الحقيقية ابتداءً من سليمان شاه وحتى سقوطها الحقيقي بسقوط السلطان عبد الحميد الثاني.

يتميز العملان بجودة الإنتاج والإخراج وبالتركيز على مراحل في عمر أمتنا لم يسلط عليها الضوء بالشكل الكافي في الإعلامين العربي والإسلامي من قبل، وكأنهما كانا ينتظران أن ترتقي الدراما والإخراج التركي حتى يقوم الأتراك بهذا الأمر بأنفسهم.

وكأن عرض المسلسلين في آن واحد يوحي للأتراك وللمتابعين من شتى أنحاء العالم بأن أمتنا لا تفتأ تتعرض للمؤامرات والدسائس من داخلها وخارجها في أي وقت، ويدل على ذلك بمسلسلي أرطغرل وعبد الحميد، اللذين يتناولان أحداثاً البعد الزمني بينها حوالي ستة قرون ونصف، ومع ذلك ترى المؤامرات فيهما ضد الأمة لا تنتهي، وأن الوضع في تركيا حالياً ليس من ذلك ببعيد، فتركيا في حقبة جديدة وصل فيها الإسلاميون إلى الحكم بعد عدة انقلابات من الجيش وبعد إعدام عدنان مندريس، ونجحوا في تعديل الدستور وفي لجم سلطة العسكر على الدولة، واجتازوا ولأول مرة انقلاباً كاد يعود بتركيا إلى الزمن البائد، وأن ما نشاهده على شاشات التلفاز في هذه الأعمال الدرامية.

والذي بعضه، وربما أغلبه -لضعف التأريخ في هاتين الحقبتين على وجه الخصوص- من خيال المؤلف، ربما يعكس الواقع الحالي التي تعيشه تركيا حالياً بين مؤامرة وأخرى من الداخل والخارج، وكأن القاسم المشترك بين قيامة أرطغرل وسقوط عبد الحميد هو تلك المؤامرات والخيانات، الذي نجح أرطغرل غازي في اجتيازها فتأسست الدولة، والتي سقط بسببها السلطان عبد الحميد الثاني بعد مقاومته الشديدة لها فسقطت الدولة.

بين أرطغرل وعبد الحميد لم تتغير القيم والمبادئ، لم تقف المؤامرات والدسائس، لم تخلُ الأمة ممن يدافع عنها ويبذل في سبيلها كل غال وثمين.

بين أرطغرل وعبد الحميد تظل العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، ولكنّ المنافقين لا يعلمون.

على الرغم من تشابه حال أمتنا الآن على وجه العموم وتركيا على وجه الخصوص بحال الأمة وقت نشأة دولة آل عثمان ووقت سقوطهم -من ناحية المؤامرات ومحاولات الإسقاط المتكررة- إلا أن النظام التركي بزعامة الرئيس رجب طيب أردوغان لا يسير على نهج أي من الشخصيتين التاريخيتين اللتين أحياهما هذان العملان، فهم يرفعون قيمة العزة والجهاد ورفع راية لا إله إلا الله حتى لو هلكوا جميعاً، أما أردوغان -وكذلك معظم قيادات التيارات الإسلامية- يفكرون أن بناء الدولة اقتصادياً هو المفتاح الرئيسي لعودة الأمة لمجدها، أي أشبِع بطون شعبك وأذقهم طعم الحرية أولاً وهم سيعودون بالفطرة إلى دينهم، أي أنه يشبه في منهجه جُندُغدو "شقيق أرطغرل" أو محمود باشا "أحد باشاوات القصر العثماني أيام عبد الحميد الثاني"، فلا أعرف هل هذا المعنى مقصود إبرازه عنواناً للمرحلة القادمة، أم أنهم لم ينتبهوا إلى أن الشعوب ستقارن أول من تقارن أردوغان -وكل الإسلاميين- بهذين الشخصيتين!

إن الحالة الأرطغرلية التي صنعها مسلسل قيامة أرطغرل -على وجه الخصوص- لتستحق الدراسة، فأي منتج يسعى إلى انتشار أعماله وإلى شعبيتها قد يفكر في إنتاج هكذا أعمال، فربما نرى كثرة الأعمال الإسلامية في الفترة المقبلة وإن كانت من صناعة علمانيين معادين للإسلام، فقط من أجل الربح والنجاح وانتشار الأعمال والصعود الفني، وهذه ثمرة لهذا العمل الذي مهما اختلفنا عليه، فإن أقل ما يمكن أن يُقال فيه إنه عظيم.

أما حال الأمة أثناء مشاهدتها لهذا المسلسل؛ فكأنه يقول: هل للأمة من أرطغرل أو عبد الحميد آخر يواجه الظلم ويفسد الدسائس والمؤامرات ويحاول العبور بالأمة من هذا القاع الذي سقطنا فيه؟

هل يبقى حالنا حال المشاهد المتفرج فقط، أم يتجاوز تأثير هذه الأعمال ذلك فنرى جيلاً يسعى إلى أن يكون كهؤلاء العظماء؟

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد