وصف الأخوان لوميير "السينما توغرافيا" في براءة اختراعهما عام 1895م بأنها آلة لإعادة إنتاج الحياة الحقيقية "الواقع"، ومنذ ذلك الوقت وقضية الإمساك بـ"الواقع" وتسجيل "الواقع" ومعالجة "الواقع" قضية جدلية بامتياز.
بعد حضوري لدورة متخصصة في "إنتاج الأفلام الوثائقية" كانت عبارة How To Catch The Moment" (كيف تصطاد اللحظة؟) هي العبارة الأكثر حضوراً في ذهني منذ ذلك الحين وحتى الآن.
كان مدربنا الألماني المتشيع لواقعية الفيلم الوثائقي -حد الانغماس- دائماً ما يتحدث عن "الواقع" معلياً من قيمته كأنقى مراتب التجلي الفنية لصانع الأفلام، خاصة عند بلوغه مرحلة الإحساس أو ما يسميه مرحلة "الشعور باللحظة"، وكان دائماً ما يردد على أسماعنا أن المخرج الوثائقي المبدع هو صياد بطبعه.. سنارته الكاميرا.. وفريسته "الواقع".
مع مرور الوقت ازداد تقديسي "للواقع" كمعطى فني تتجسد من خلاله سينمائية الفيلم الوثائقي روحاً وجوهراً، وبالتالي يتوجب اصطياده غضاً طرياً مهما كلف الأمر، كان من تحذيراته المتكررة أيضاً "يجب ألا تقف كاميراتكم عن الدوران" استعداداً للحظة الانقضاض.
حاولت الاقتراب من ماهية ذلك "الواقع" بقراءة الكثير من المقالات المفهومة وغير المفهومة، ليس أولها الجملة الشهيرة للناقد الفرنسي الكبير "أندريه بازان"، صاحب نظرية عمق المجال: "يجب أن نضحي بجزء من الواقع لفائدة الواقع"! وليس آخرها مقولة: "إن الخيال هو الطريقة الوحيدة لمقاربة الواقع"!
كلمة "الواقع" كانت تتراءى أمامي كثيراً في ثنايا تعريفات الفيلم الوثائقي المتفرعة والمتنافرة أحياناً، وهنا تكمن حساسية هذا الفن الذي يقدم نفسه بأنه فن سينمائي يستمد مادته من "الواقع"، ولكن السؤال الملحّ: كيف يمكن الظفر بذلك "الواقع" وهو على قيد الحياة؟
على قاعدة "قليل من الفلسفة يؤدي إلى الإلحاد، كثير من الفلسفة يؤدي إلى الإيمان" قررت الإبحار بحثاً عن حقيقة ذلك "الواقع" في تعريفات جيل الرواد الوثائقيين المنظرين والملهمين في العالم أمثال "دزيغا فيرتوف، جون غريرسون، روبريت فلاهرتي، ووبول روثا وألبرتو كافالكانتي ويوري إيفنز"، الذين كانت رؤيتهم ما بين التباين والتقارب وتصل أحياناً إلى حد التناقض، ومن خلال ذلك بدأ "الواقع" الزئبقي بالتكشف لي رويداً رويداً، ابتداء بشخصيته، مروراً بعفته، وصولاً إلى وجهته؛ حيث "حركة دوجما 95" الدانماركية -المتشددة- الداعية إلى مبدأ "العفة السينمائية"، والقائمة على مبادئ عشرة أهمها: واقعية التصوير في أماكن حقيقية من دون إضافات، والتزامها بتسجيل الصوت بشكل متزامن، وعدم استخدام الموسيقى من خارج الحدث، والتصوير بكاميرا محمولة، والتصوير بالألوان دون إضاءة صناعية.. إلخ سبقها في ذلك العفاف الفني المدرسة الأم مدرسة "الواقعية الجديدة" في إيطاليا.
في رحلة البحث القصيرة هذه رافقني سؤال منطقي: هل يمكننا الحديث عن "الواقع" بمعزل عن "الموضوعية"؟ وماذا لو اتفقنا على أن الموضوعية نسبية وليست مطلقة؟ عندها كيف سيكون شكل ذلك "الواقع"؟ سواء أكان سينمائياً أو تلفزيونياً.
التساؤل الآخر: ماذا عن "الذاتية" ذاتية الصانع نفسه كان مخرجاً أو مصوراً أو محرراً؟ هل يمكن لهم أن يكونوا عناصر غير مؤثرة في عملية الإمساك بذلك "الواقع"؟
لو رجعنا قليلاً إلى أصل الحكاية إلى "الصوارة أو القمرة"، لوجدنا أن آلية رؤية العين البشرية للصورة هي نتاج انعكاس الضوء من على سطح ما لتسقط على العين، ويترجمها المخ إلى إشارات كهربية تمكنه من الرؤية، وإذا ما علمنا أيضاً أن طريقة عمل الكاميرا ميكانيكاً تتطابق تماماً مع عمل العين البشرية، هل يحق لنا إذاً أن نتساءل ببراءة: إذا كان "الواقع" عبارة عن وحدة بصرية مكون من شظايا الصور هي انعكاس للأفكار والمعتقدات والعدسات؟ هل أصبحنا إذاً كصناع كمنتجين نعكس الواقع أو ظل الواقع؟
يرى الكاتب الأرجنتيني "خورخي لويس" أن جوهر الخلق الفني هو القدرة على الكذب، الكذب الذي يحفظ صورة الواقع المتوهمة!
عندما يقول "جان لوك غودار" أحد أبرز أعضاء الحركة السينمائية -الموجة الجديدة- إن تحريك مقبض الكاميرا -الكبس على الزر- هو فعل سياسي! هل يعني ذلك القول أن لكل منا تصوراته وأفكاره الخاصة به؟ وإذا كنا كذلك هل يمكن ألا ننفك عن ذواتنا وتصوراتنا عند رؤيتنا "للواقع" سواء من خلال زاوية النظر، مدة النظر، مسافة النظر، خاصة إذا ما أدركنا أن الكاميرا كوسيط تقني تمكننا من رؤية "الواقع" كما نريده نحن مقعراً أو محدباً أو مسطحاً! يقول الرسام المصري الراحل عدلي رزق الله عن التصوير: "ما هو إلا طريقة للتفكير وللحب وللبغض وللكفاح والعيش".
كما لو تأملنا قليلاً في عملية المونتاج القائمة على مبدأ تفتيت الزمان والمكان لوجدناه أداة سحرية طيعة في تجميل أو تقبيح أو إبراز أو تهميش "الواقع" وبالتالي هل تتأكد مقولة "الواقع عصي على الإمساك"؟
بناءً على ما تقدم واقعياً وفنياً هل بات بالإمكان القول بوضوح إن كل المحاولات الصادقة والعفيفة للاقتراب من "الواقع لم تكن في حقيقة الأمر -في أحسن الأحوال- سوى نسخ كربونية من "الواقع"؟!
تقوم نظرية "عين السينما" للمنظّر الروسي "دزيغا فيرتوف" على أن عين الكاميرا ترى أكثر مما تستطيع العين البشرية رؤيته، باعتقادي سيظل شعار "دزيغا فيرتوف" الشهير "أنا عين الكاميرا.. التي تريكم العالم كما أراه) توقيعاً شخصياً بنكهة واقعية حتى إشعار آخر.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.