الشعر حرفة وكدّ ذهني ووجداني، أين التدفق والعفوية؟ أين دور الإلهام الذي يتنزل على الشاعر من حيث يدري ولا يدري، فيبعث فيه الشعر بلا جهد ولا تكلّف؟ أليس الشعر نفثات شعورية طاغية تتشكل باللغة في لحظة ما وتفاجئ الشاعر على غير موعد أو تدبير؟
لعل هذه الانطباعات الشائعة المغلوطة، من جملة الأساطير التي شيَّدتها طائفة الشعراء عن أنفسهم عبر التاريخ؛ ليؤكدوا تميّزهم عن سائر الخلق، فلطالما أنكرت تنفج الأدباء والشعراء وادعاءاتهم في أنفسهم ومصادر إلهامهم.
فقديماً اختلق الإغريق إلهة للإلهام سموها (Muse)، وزعموا أنها تنفث في رؤوس الشعراء والفنانين، واختلق العرب شياطين الشعر، وجعلوا لكل شاعر عظيم شيطاناً يختص به، ومنحوه اسماً، وما الشاعر إلا لسانه الذي ينطق به.
وكل ذلك للإيهام بأن عبقرية الشاعر منحة روحانية تتجاوز عالم الخلق وتتعالى عليه، وتمدّه قوى غيبية خارقة تجعله فوق الناس، فإن لم يكن في ذاته إلهاً فهو يتاخم الآلهة، وإن لم يكن في ذاته نبياً فهو كذلك مؤيّد برسالة كونيّة من نوع آخر غير رسالة النبي، فحُق على الناس أن ينصبوه في الموقع الذي يستحقه بين النجوم.
وفي العصور الحديثة غاب البعد الغيبي الروحيّ في دعوى الشعراء والأدباء، ولكنهم ابتدعوا طرقاً جديدة في تأكيد تفرّدهم، فالإلهام لا يزال قوة غريبة غامضة تضرب الشاعر كما الصاعقة، فيشتعل الشعر فيه على غير إرادة وكدّ منه.
فهذا يقول: "كتبتني القصيدة ولم أكتبها"، وذاك يقول: "فاجأتني القصيدة وأنا في الحافلة"، والمعنى المضمر في هذا وأمثاله يحيل إلى ما يشبه شيطان الشعر عند العرب، وإلهة الإلهام عند الإغريق.
ويصر الكثير من الشعراء والأدباء والفنانين على تقمّص صورة ذهنية نمطية رسموها بأنفسهم لأنفسهم، تستعلن في المظهر والسلوك ليفارقوا بها مألوف الناس ويؤكدوا بها تفردّهم.
فالشاعر روح قلق يستقبل نبض الكون، وهو ما يجعله مثقلاً بالهموم والهواجس، ويدفعه إلى التصعلك والتسكع على أرصفة العالم.
وإذا كانت شبهة الجنون وصمة لسائر البشر، فإنها علامة العبقرية عند المبدعين.
وأشدّ ما يغيظني من هؤلاء أنهم لا يرسمون خطاً فاصلاً بين لغة الشعر ولغة الحديث عن الشعر والحياة، فتراهم إذا تحدثوا في أمر من العاديّات التي تقتضي بياناً مباشراً، لجأوا إلى زخرف القول الشعري غروراً، يحسبون أن الشاعر لا يقول كغيره، ولو كان القول في أسعار الفجل والمحروقات، فإن سئل عن طفولته وتجاربه الأولى، لم يسعه الجواب البسيط المباشر.
وُلدت في ظل السنديانة، وكانت الفراشة دليلي إلى غوايات الرحيق الأول، والسنونو مرشدي إلى ركوب الريح، وأعارتني الخيول الجامحة صهيلها الذي لا يعبأ بسائس ولا رقيب.. إلخ.
لا أحسب أنك تحب أن تقرأ أكثر من هذا، فهو على شعرية العبارة هذر سقيم، وادعاء منفّر، وتنفج مزعج، ولو وضع في قصيدة أو نص أدبي لتلقيناه بقبول حسن، فذاك سياقه ومحلّه.
أما أن يساق في مقابلة صحفية فهو تكلّف مرذول، ومن باب وضع الندى في موضع السيف، والسيف في موضع الندى.
لا، لا تكتب القصيدة شاعرها، ولا تنزل عليه كالصاعقة، ولا تجلجل كالجرس في رأسه، ولا تنتابه كسنة النوم، فإذا أفاق وجدها على ورقه، فكل من كابد الشعر بحق، يعلم علم اليقين أن كتابة القصيدة تحتاج إلى كدّ ذهني ووجداني أشدّ من كدّ الكتابة النثرية الفكرية غير الأدبية، أو ما يسمى بالنصوص المنطقية كالمقالة والبحث.
فكاتب النص الفكري المتمكن من مادته، يسيل قلمه بأفكاره التي تتقدم وعيه في تلك اللحظة، وتتشكل وتتمثل بالوسيط اللغوي الذي يبقى في خلفية الوعي، فلا يتوزّع نشاطه الذهني بين الفكرة التي يعبّر عنها والشكل اللغوي الذي يعبّر به، وإنما ينصب على الأفكار، والأفكار على كل حال لا تتخلّق خارج اللغة ولكن بها.
أما في تأليف الشعر، فينقلب الحال؛ إذ يتقدم التشكيل اللغوي الفني الجمالي إلى مقدّمة الوعي، ويصبح غاية في ذاته فضلاً عن الرسالة والمعاني التي تتأسس هنا في التشكيل اللغوي الجمالي نفسه.
وقارئ النص النثري المنطقي كذلك تتقدم المعاني والمحتوى وعيه، إلا أن يقع خلل لغوي يتنبّه له.
أما قارئ النص الشعري فيتقدّم التشكيل الجمالي اللغوي وعيه أيضاً، بما يحفل به من انزياحات لغوية فنية مقصودة تخرق المعايير اللغوية العامة في علاقات المفردات بعضها ببعض، لخلق عنصر المفاجأة الشعرية الجمالية وما يصحبها من تأثيرات أسلوبية، وابتداع دلالات جديدة من خلال الصورة الشعرية المجازية والاستعارية.
اللغة في الشعر هي مادة التشكيل الجمالي فضلاً عن وظائفها الدلالية، ولذا فإن مهمة الشاعر مزدوجة؛ إذ يتوزع وعيه بين تخليق القيمة الفنية باللغة، والمعاني التي يريد إيصالها.
والتسوية بين الغايتين ليست بالعملية الهيّنة، إلا عند الشاعر المطبوع، فقد تطغى الفكرة على القيمة الفنية الجمالية، فيقع في المباشرة أو التجريد الذهني وتتراجع الشعرية، وقد تطغى غاية الإغراب الفني حتى تتشيّأ اللغة ولا تقول شيئاً، ويسود الإبهام وينغلق النص.
لا تتوقف تحديّات الشاعر عند هذه الثنائية المتنافرة بين تخليق القيمة الفنية الجمالية والمعاني؛ إذ إن لغة الشعر تقوم على جملة من المفارقات.
فعلى الشاعر أن يفارق اللغة العامة ومعاييرها من خلال الانزياحات اللغوية التي تفضي إلى لغة المجاز والاستعارة والصورة، ثم عليه أن يفارق أساليب الشعراء الآخرين قبله وفي زمنه، ثم عليه أن يفارق قصائده السابقة؛ ليقدّم نصاً متميّزاً مغايراً، فالانزياحات التي تفارق المألوف اللغوي العام (لغة المجاز والاستعارة والصورة)، إذا تكررت بأعيانها وأشباهها فقدت عنصر الجدّة والمفاجأة والتميّز، وما تلبث أن ترتد إلى الخلفية اللغوية العامة وتندمج بها.
وينبهنا علم الأسلوبية إلى أن بنية القصيدة العامة تقوم على عنصرين متشارطين: الخلفية (Background) والنتوء (Foreground).
أما الخلفية فتتكون من معايير اللغة العامة المألوفة في خطاباتنا المنطقية، وأما النتوء فيتشكل من خروقات الشاعر المقصودة لتلك المعايير، حين يخلق علاقات جديدة غير مألوفة بين الكلمات يكسر بها توقعات القارئ، محدثاً عنصر المفاجأة الفنية، فبدلاً من أن يقول مثلاً: "على مرمى حجر"، ربما قال: "على مرمى قصيدة"، ولا تبرز الخروقات أو الانزياحات إلا بالتقابل مع الخلفية اللغوية المعيارية المألوفة التي تم خرقها في ذلك الموضع من النص الشعريّ.
فاستقبال غير المألوف يفترض استحضار المألوف، وكسر التوقعات يقتضي حضور التوقعات المعياريّة، كما تبرز النقطة السوداء على خلفية بيضاء.
أما إذا كانت الخلفية رمادية فإن النقطة السوداء لا تفاجئ الوعي المستقبل بالقدر نفسه.
ومن جديد، فإن تكرار الانزياحات الشعرية نفسها من قصيدة إلى أخرى، يحوّلها إلى مألوف يتراجع إلى الخلفية، ويفقدها من ثمّ قدرتها على خلق المفاجأة الفنية والقيمة الشعرية الإبداعية.
ومن هنا كان على الشاعر في كل قصيدة جديدة أن يفارق معايير اللغة العامة في مواضع مختلفة من نصّه، وأن يفارق معها الانزياحات الشعرية الناجزة في شعر غيره، بل في شعره السابق نفسه؛ ليكون نصّه الجديد إضافة شعريّة حقيقية، وتلك لعمر الله مهمّة شديدة الصعوبة لا يواجه مثلها كاتب النص النثري المنطقي.
وإن لم يكن هذا كافياً، فإن على الشاعر أن يرضي متطلبات نظامين متنافرين آخرين معاً: النظام العروضي والنظام اللغوي.
فعلى خياراته اللغوية أن تنتظم في كلا النظامين دون أن يجور أحدهما على الآخر، فقد تصحّ الكلمة في موضع ما من البيت الشعري (أو السطر الشعريّ في القصيدة الحديثة) باعتبار النظام اللغوي، ولا تستقيم باعتبار النسق الإيقاعي العروضي، أو العكس.
ومن شأن هذا أن يقلّص خيارات الشاعر المعجميّة في كل موضع من نسق القصيدة وأبياتها، فلو أسقطت كلمة من سياق نص نثري منطقي، وطلبت من آخر أن يملأ الفراغ، فالأرجح أن تتسع الخيارات المحتملة التي يستقيم معها الكلام.
أما إذا أسقطت كلمة من بيت شعري، فإن قائمة الخيارات المحتملة لملء الفراغ أقلّ وأضيق.
فثم كلمات تصحّ في ذلك السياق اللغوي الدلالي، ولا تستقيم مع الوزن العروضي، فتخرج من الاحتمال. وتبقى الخيارات التي تستقيم لغةً ودلالةً ووزناً، وهي لا شك قليلة، فيكون من الأسهل تخمين الكلمة المناسبة الساقطة في ذلك الموضع الشعري، مقارنة مع مثلها في النص النثري المنطقي.
كل ذلك يجعل مهمّة الشاعر أشد صعوبة من الناثر المترسّل؛ إذ عليه أن يشكل عبارته الشعرية في نطاق القيود اللغوية والقيود العروضية معاً، وكل منهما يجذب في اتجاهه.
ومن شأن هذا أن يفضح الموهبة الضعيفة والمتوسّطة، بقدر ما يجلّي الموهبة المطبوعة الفذّة، فقد تجد عند الأول كلمات قلقة بمثابة الحشو، ما اضطر إليها إلا تحت وطأة الوزن العروضي.
أما الثاني فلا تحسّ عنده تنافراً بين هذا وذاك، ومما ييسر عليه ذلك اتساع معجمه اللغوي الذي يوازن به إملاءات الوزن، كذلك شأن المتنبي الذي ما زال يحمل راية الشعراء عبر العصور.
اجتهد الكثيرون في تفسير التحول إلى شعر التفعيلة منذ أواخر الأربعينيات بين مَن ردّه إلى تأثير الشعر الغربي ومن اعتبره تطوراً ذاتياً يندرج في سياق التطور العام في الوعي الثقافي والرؤية الشعرية وبنية القصيدة ولغتها.
ومهما يكن نصيب تلك التفسيرات من الصواب، فإن ثمّة عاملاً آخر غائباً في رأيي يرجع إلى طبيعة العلاقة المتنافرة بين النظام اللغوي والنظام العروضي في الشعر، على نحو ما بيّنا.
ذلك أن مقتضيات الوزن تقلّل من خيارات الشاعر المعجمية في أي موضع من البيت الشعري، ولكن لغة الشعر القديم والتقليدي كانت تعوّض عن ذلك بالتوسّع في الذخيرة المعجمية لتشمل مفردات قديمة لم تعد مألوفة في الاستعمالات المعاصرة الأخرى.
فلا يصدمك أن تقرأ في قصيدة تقليدية كلمات مثل ليث وغضنفر إشارة إلى الأسد، ولا كلمات مثل مهنّد وصارم وحسام إشارة إلى السيف، ولكنها تصدمك في درج الكلام العاديّ، فلا تتوقع من صاحبك أن يدعوك إلى حديقة الحيوان لتريا معاً الليث أو الغضنفر، ولن تسمعه يشير إلى السيف الدمشقي بكلمة حسام! وإذن فإن معجم الشاعر التقليديّ أوسع من معجم الأساليب المعاصرة، وهو ما يوازن ضغط العروض على خيارات الشاعر اللغوية.
ولكننا إذ ندقق النظر في الشعر العربي الرومانسي الذي مهّد للشعر الحديث، مثل شعر الشابي وشعراء المهجر نلحظ انصرافه إلى حد كبير عن مفردات المعجم التاريخي التي سقطت من الاستعمال المعاصر، وجنوحه إلى المعجم المعاصر فقط.
ومهما يكن السبب في هذا التحول، فإنه أفضى إلى تعاظم ضغوط الوزن التقليدي العمودي على خيارات الشاعر اللغوية مع انحسار معجمه اللغوي، وهذا بدوره بدأ يملي على الشعراء التخفف من بعض القيود العروضية لموازنة ضمور الخيارات المعجميّة، وقد تمثّل ذلك قبل شعر التفعيلة في ظاهرة التنويع في الأوزان والقوافي على نحو منظم في الكثير من القصائد، كما في قصيدة المواكب لجبران مثلاً، وكذلك في الميل إلى القافية الساكنة بدلاً من تلك التي تنتهي بحركة مشبعة (أي مطوّلة)؛ إذ إن القافية الساكنة تتيح للمفردات في آخر الأبيات أن تتقافى بصرف النظر عن وظائفها النحوية، ومن ثم حركتها الإعرابية في سياق العبارة الشعرية، بخلاف القافية المتحركة التي تلزم الشاعر أن يكيف عبارته وتركيبها النحوي بما يفضي إلى أن تكون كلمة القافية في موضع إعرابي معين للحفاظ على حركة القافية. وإلا وقع ما يُسمّى بـ"الإقواء"، وهو أن تأتي حركة القافية مخالفة لمقتضى النحو.
كل ذلك في رأيي كان تمهيداً لشعر التفعيلة الذي تحرر من نظام الشطرين والتناظر في عدد التفاعيل والقافية الواحدة، وفي الوقت نفسه لم تعد المفردة مستقلة تحمل أي قيمة شعرية، وإنما تتحقق شعريتها في سياق الصورة الشعرية والعلاقة المستحدثة بينها وبين الكلمات الأخرى.
كل هذا لنحطّم الأسطورة التي خلقها الشعراء عن أنفسهم: أسطورة الإلهام الذي يصعقهم دون جهد منهم، فما إن يفيقوا منه حتى تكون القصيدة قد كتبت نفسها!! فلعلّه قد اتضح للقارئ الآن أن في كتابة الشعر من الكد الذهني والوجداني ما لا يجد مثله كاتب المقالة أو الدراسة ونحوهما.
أما ميل الكثير من الشعراء إلى استعمال اللغة الشعرية في غير النص الشعري، امتثالاً لصورة الشاعر النمطية المصطنعة وتأكيداً لتميّزه وتفرّده حتى في سياق العادي والمألوف، فما زال في النفس بقيّة منه، فقد أسلفنا أن بنية النص الشعري تتكون من عنصرين متشارطين: الخلفية اللغوية المعيارية العامّة المألوفة، والانزياحات الفنية المقصودة عنها من خلال لغة المجاز والاستعارة والصورة المبتدعة الجديدة.
وذكرنا أن الانزياحات لا تبرز إلا بالتقابل مع الخلفية التي يتم الانزياح عنها، كما تبرز النقطة السوداء على خلفية بيضاء.
ومعنى ذلك أنه بقدر ما تكون الخلفية المعيارية شديدة الصرامة، يكون خرقها واضحاً مؤثراً يصدم الوعي المستقبِل بعنصر المفاجأة الشعرية الفنية وكسر التوقعات، وذلك شبيه -على نحو ما- بالسلوك الاجتماعي، فإذا كانت الأعراف والقيم الاجتماعية صارمة كان الخروج عليها أوضح للعيان، أما إذا كانت الخلفية المعيارية رخوة ومرنة وشديدة التسامح، فإن خرقها لا يصدم الوعي ولا يكسر التوقعات ولا يفاجئ المستقبل بالقدر نفسه.
والحال أن الإسراف في استعمال اللغة الشعرية خارج نطاق النص الشعري، وفي سياق الخطابات التي يفترض أن تكون مباشرة منطقية، يجعل الخلفية اللغوية المعيارية العامة أقل صرامة في معياريتها وأكثر رخاوة؛ إذ هي مشبعة بالشعرية خارج النص الشعري نفسه.
ومن ثم يكون الانزياح عنها بلغة النص الشعري: لغة الصورة المبتدعة، أشد صعوبة، ويصبح مطلب خلق المفاجأة الشعرية أبعد منالاً، كحال النقطة السوداء على خلفية رمادية.
بعبارة أخرى: فإن قوّة الانزياح مشروطة بقوة المعيار المنزاح عنه، فإذا أسرف الشعراء والأدباء والمثقفون في ضخ الشعرية في سياقات استعمال اللغة العامة، أحبطوا شروط الإمكان لتميّز لغة النص الشعري نفسه، الذي يقوم في جوهره على مفارقة معايير اللغة العامّة، فيصبح الكل مألوفاً أو قريباً من المألوف.
والمألوف عدو الشعرية، وعلى ذلك قد يصح القول: إن "لا شعرية" الخطابات العامة المنطقية، شرط لتخليق "شعرية" النص الشعري على سبيل التقابل، بل يمكن القول إن شيوع اللغة العلمية والاصطلاح المعرفي الدقيق يؤسس الخلفية للغة الشعرية على سبيل المغايرة والمفارقة!
واللغات -كما يفيدنا علم الأسلوبية- من حيث أساليب الاستعمال العامّة، كلاماً منظوماً أو مكتوباً، تمرّ بأحد طورين متعاكسين حسب الظرف الحضاري الثقافي للناطقين بها، أما أحدهما فيتّسم بالمعيارية الصارمة التي لا تترك مجالاً واسعاً للتصرّف الفردي، فتكثر فيها التعابير الجاهزة ldioms ويشيع المعجم الاصطلاحي الدقيق الصارم في التعبير عن المفاهيم الفكرية والتقنية حتى في درج الكلام اليومي.
وتوصف أساليب اللغة في هذا الطور "بالتمأسس" Institutionalization، فإذا خرج المتحدث عن مألوف أساليبها لسبب ما تنبّه المستقبل من أبناء اللغة فوراً لغرابة التعبير قياساً بالمألوف المعياري، حتى لو كانت العبارة منضبطة بقواعد النحو. وأكثر ما يظهر هذا في كلام من لم يصل إلى مستوى الإتقان العام من غير أبناء اللغة، فقد يأتي بعبارة ما سليمة من الناحية النظمية النحوية، ولكنها مع ذلك تبدو غريبة غير مقبولة من الناحية الأسلوبية المتعارفة، ولذا يميّز علم اللسان الحديث بين نحويّة العبارة Grammaticality وبين مقبوليتها Acceptability.
فإذا كانت أساليب اللغة العامة على هذا القدر من المعيارية والتمأسس، صار الانزياح عنها قصداً في النص الشعري أيسر وأجدر بأن يحقق عنصر المفاجأة الجمالية.
فبقدر صرامة المعيار، يكون وضوح الخروج عنه، وهذا حال الإنكليزية الآن في أساليبها العامّة.
وهذا الطور اللغوي الأسلوبي يعبّر عن عقل ثقافي متجانس من جهة، وشديد التخصص من جهة أخرى، فلكل مجال من المجالات المعرفية والتقنية والاجتماعية مصطلحه الدقيق الذي يعبّر عن منظومة مفاهيمه المترابطة، والذي رشح جزء منه إلى الثقافة العامّة. فللمجال الاقتصادي معجمه، ومثله في السياسة والتكنولوجيا والفلسفة والاجتماع.. فلا يحتاج المتكلم إلى أن يجتهد في التعبير عن فكرته خارج مصطلحها الجاهز بأسلوب ذاتي متفرّد، فيحتال لها باستعمال التشابيه والصور والمجاز والتوصيفات الخاصة، وكل ذلك يعبّر عن مستوى حضاري ومعرفي متقدم، وعن شيوع المفاهيم العلمية والتقنية، وعن تجانس المؤسسة الاجتماعية وثقافتها العامة.
أما الطور الثاني فهو على الضد من الأول؛ إذ الأساليب العامة تفتقر إلى المعيارية الصارمة والعرف الأسلوبي الراسخ، والصدور عن مرجعية اصطلاحية ومعرفية عامّة تحقق الدقة في التعبير عن الأفكار، ولذلك تشيع في هذا الطور الاجتهادات الفردية في التعبير، وتتراجع سلطة النص المنطقي، وينحسر معجمه المعرفي الجاهز، لصالح التعبير الإنشائي الذاتي ولغة الاستعارة المرتجلة.
وهنا نجد الكثير من النصوص النثرية الفكرية مشبعة باللغة الشعرية وانزياحاتها، بسبب حالة السيولة في الأساليب والمجالات الفكرية، فإذا كانت الخلفية المعيارية ممثلة في الأساليب العامّة شديدة التسيّب على هذا النحو، ومفعمة بالانزياحات الشعرية، ولا تؤسس لتوقعات قويّة مسبقة، فإن خرقها قصداً في النص الشعري وتحقيق عنصر المفاجأة يصبح مهمّة أشد صعوبة وأبعد منالاً، فلا يملك الشاعر إلا أن يبالغ في الإغراب والمفارقة، حتى تصير الانزياحات هي القاعدة والأصل، بدلاً من أن تكون الاستثناء الذي يفارق الأصل ويبرز على خلفيته، وهنا ينغلق النصّ وتفقد الانزياحات تأثيرها الجمالي والدلالي معاً، ويصبح الشكل غاية في ذاته لذاته، لا يشير إلا إلى نفسه، وهو ما يمكن أن يوصف بتشييء اللغة، على نحو ما تكون الألوان في الرسوم التجريديّة.
وهنا تنفتح أبواب الساحة الشعرية ليدخل منها أدعياء الشعر وغير الموهوبين وأنصافهم، فليس عليهم إلا أن يقدّموا عبثاً شكلياً مغايراً وانزياحات لغوية مجانية ليعطوا نصوصهم صفة الشعر، فإن اعترضت بأنها لا تقول شيئاً قالوا: ليس من مهمّة اللغة في الشعر أن تقول، وإنما أن تكون! ومن لا يسعه أن يقدّر ذلك، فليتّهم وعيه وثقافته التي قصرت به عن اللحاق بالحداثة!
هذا هو حال العربية الآن، على خلاف ما كانت أساليبها العامّة في العصر العباسي مثلاً، ولقد تقرأ الآن شعر أبي تمام، فتعجب لِمَ وصف في حينه بالإغراب، حتى قيل: لمَ لا نقول ما يُفهم؟ والحال أنه بدا غريباً في ذلك العصر قياساً بمعيارية أسلوبية عامّة صارمَة. وذلك في أوج الإنتاج الحضاري المعرفي العربي، ألا يصح القول إذاً: إن ترسّخ الأساليب العلمية والمنطقيّة والاصطلاحية في الاستعمالات العامّة أجدر بأن يخلق شرط الإمكان للشعر نفسه دون أن ينزلق إلى التعميّة والانغلاق؟
هل يفسّر هذا ما آل إليه المشهد الشعري العربي من انحسار جمهوره وتقدّم الفنون السردية عليه؟ وأين هو الآن من وصفه القديم بديوان العرب؟ وهل يفسّر هذا انبعاث ما يسمّى "الشعر النبطي" بديلاً عن الشعر النخبوي في مناطق كثيرة من الوطن العربي؟
عذراً للشعراء إذا سرقت نارهم وأسلمتها إلى عامة الخلق، وكشفت بعض أساطير الطائفة المهنية التي ينتسبون إليها.
ولعلّي كنت على بعض طرقهم وادعاءاتهم في مطلع الشباب، حتى أفسدتني "الأكاديميا" أو أصلحتني! ولعلّ هذا الذي وصفته من أحوال الشعر والشعراء بعض ما صرفني عن الشعر إلى السّرد الدرامي.
وعلى أي حال، فإن تراجع الشعر أمام الفنون السردية ظاهرة عالمية في عصر ما بعد الحداثة، على نحو ما بيّنت في كلامي عن الدراما.
ففي الوقت الذي سقطت فيه الفواصل بين أشكال الثقافة العالية والثقافة الشعبية، ومعها الفواصل بين جمهور النخبة والجمهور العريض، تقدّمت الفنون السرديّة بفضل قدرتها على إمتاع الجميع ومخاطبتهم دون أن تفقد بالضرورة قيمتها الإبداعية، بقي الشعر عاجزاً عن تلبية المطلبين معاً، فإذا توخّى التميّز الفني بالإسراف في المفارقة والمغايرة، خسر قرّاءه إلا من نخبة ضئيلة ما زالت تضيق مع الأيام، وإذا طلب الجمهور العريض وقع في المباشرة فخسر من قيمته الفنية.
شقاء الشعراء في السعي الدائب إلى المغايرة من وجوه عدّة: مغايرة المعيار اللغوي العام، ومغايرة ما صار معياراً للشعر، ومغايرة كل النماذج والإنجازات الشعرية المرموقة في الماضي والحاضر.
فكل تجربة شعرية جديدة هامة تمثل تحدياً لتجاوزها إلى نقلة أخرى، حتى إذا امتد بالشعر تاريخه إلى الوقت الراهن، وجد الشعراء أنفسهم قد أوغلوا بعيداً، حتى دخلوا في صحراء التيه، وانبتّوا عن الجمهور الذين لا وجود لنصوصهم إلا به. وإن المنبت لا ظهراً أبقى، ولا أرضاً قطع!
أعلن البعض موت الشاعر، وأرادوا بذلك أن القصيدة تنفصل عن منشئها وتصبح ملكاً لقارئها، يعيد تشييدها في وعيه وذائقته بمعزل عن الشاعر.. ولكن، ماذا إذا مات الجمهور نفسه الذي لا يحيا الشعر إلا به؟! ألا يغري ذلك بنعي الشعر نفسه؟!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.