لطالما سُئلت: لماذا هجرت الشعر، وكنت فيه حيناً من الدهر شيئاً مذكوراً، وبه عرفت أول أمرك في الأدب، وتلقاك النقاد بقبول حسن؟ فإذا ذُكر جيل السبعينات من الشعراء كنت تُعدّ من أهل السبق والتقدم، وأنت بعد في ميعة الصبا. فصدر ديوانك الأول عن دار الطليعة " قصائد في زمن الفتح" عام 1969، وأعقبه ديوانك الثاني "وشم على ذراع خضرة" عام 1971، ثم صدر ديوانك الثالث "تغريبة بني فلسطين" عام 1979، والأخيران صدرا عن "دار العودة" في بيروت. ثم انصرفت عن ذلك إلى كتابة الدراما !
والسؤال المكرور على وجاهته، ينطوي أحياناً على شيء من العتاب الذي يتاخم التهمة: أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟!
ولقد يرتدُّ المغزى إلى أصل في الثقافة العربية الأدبية الموروثة، حيث الشعر ديوان العرب، فما احتفت أمة بالشعر والشعراء كما احتفى بهما العرب. وظل الشعر حتى العصر الحديث الشكل الأدبي الأسمى الذي لا تنازعه أشكال أخرى. فلم يعرف العرب المسرح كما عرفه الإغريق. أما الرواية والقصة فكلاهما وافد حديث استعرناه من الغرب. ولذا قرّ في الوعي الأدبي العربي أن الشعر سيد الأشكال الأدبية! فكيف يَطَّرِحه من أُعطي موهبته، وينصرف إلى غيره، إلا أن يجمع بين الموهبتين فيكون مجلياً فيهما على سواء!
والحديث في هذا الأمر ذو شجون. والحق، أولاً، أنه لا تفاضل بين الأشكال الإبداعية بمطلقها. إنما يقع التفاضل بين النصوص والمواهب بأعيانها. فثم رواية عظيمة وكاتب روائي عظيم، وثم رواية ضعيفة وكاتب رواية ضعيف الموهبة. ومثل ذلك في الشعر والشعراء وفي المسرح وكتّابه. فأما الزبد في هذا وذاك فيذهب جفاء، وإن تدخلت الأغراض والأهواء والتحزبات والتحيزات وعلاقات القوة في الترويج له في وقته، وأما ما كان قيمة إبداعية أصيلة لا تتعكز على شيء خارجها، فيمكث في الوعي والذاكرة والذائقة جيلاً بعد جيل، وإن تحالفت الأغراض والتحيزات على تجاهله في أول ظهوره. فالقيمة الإبداعية غلابة، وحليفها الزمن وتقدم الوعي والذائقة.
لماذا هجرت الشعر؟!
هل يفارق الشعر صاحبه على حين غرةٍ، فيستعصي عليه وإن راوده وطلبه؛ إذ تنضب الموهبة ويغيب الإلهام؟! ربما صح ذلك فيمن كانت موهبته محدودة ابتداءً، فلم تعد محاولاته الأولى بالكثير، ولم تشجعه استجابات القراء والنقاد على المضي في تعريف نفسه بالشعر. ولكنه لا يصح في غيره ممن ثبتت موهبته وصدقت بها الذائقة المدربة مبكراً .
ولكنّ الموهبة الشعرية الحقيقية كنبع في باطن الأرض، يعطي ويفيض بقدر ما يضخ صاحبه منه إلى ظاهر الأرض، فإن انصرف بجهده وطاقته إلى غيره لبث كامناً في عمق الأرض.
والكتابة الشعرية طاقة ذهنية ووجدانية. فإذا مال المبدع إلى إفراغ طاقته تلك في أشكال أخرى من الإبداع الفكري أو الأدبي بسبب ما، لم يبق له الكثير مما ينفقه في الشعر، وخاصة إذا شعر بأنه يحقق ذاته الإبداعية في الأشكال الأخرى على نحو يغنيه عن غيرها. والشعر غيور يلح على صاحبه أن يتفرغ له، وإلا حجب كنوزه وخزائنه. ومن النادر أن تجد مبدعاً عظيماً وزع طاقته بين أشكال إبداعية مختلفة فتفوق فيها جميعاً بالقدر نفسه كمّاً ونوعاً، إلا أن يكون ذا موهبة متواضعة فيها جميعاً، وإن أكثر.
أما الشاعر العظيم الذي أنفق عمره في تطوير مشروعه الشعري، حتى بلغ به ذروة مجيدة، وملأ الأسماع وشغل الناس، فيحذر أن يغامر بأشكال أخرى يمكن أن تقصر به عما بلغ بالشعر، فيكون تفوقه في الشعر حجة وحكماً عليها. وقد روى لي نبيل عمرو، سفير فلسطين الأسبق في القاهرة، عن صديقه الحميم محمود درويش أنه وإن كان آمناً على مكانته التي لا تُنازع في الشعر، فقد كان يكتم غيرة من الرواية العظيمة، فيتوق إلى كتابة الرواية، ثم يحجم قائلاً: أن أكون الأول في الشعر خير من أن أكون متأخراً عن هذه المنزلة في الرواية!
خلاصة القول، إن الموهبة الشعرية الكبيرة لا تتواصل إنجازاتها وتتراكم وتتجدد وتتفرد لتصير إرثاً باقياً إلا إذا تفرغ صاحبها للشعر فجعله حرفته ومشروع حياته المركزي وهويته التي يتعرف بها ورسالته الأولى في الحياة، فإن أضاف إليه جهوداً كتابية أخرى، كالمقالة والبحث، بقيت على هامش المشروع الشعري أو ظلت تدور في فلكه، ولم تزاحم الشعر على موقعه المركزي في حسه ووعيه بذاته.
نعم، مضى عليّ حين من العمر كان فيه الشعر هاجسي الأول الذي أصحو وأنام على صوته الغامض وندائه الساحر، فلا أحب أن أتعرف إلا به، وإن تنوعت الاهتمامات والطموحات الأخرى. ولا شك عندي في أن الموهبة الأدبية كسائر المواهب، تولد مع الإنسان، ولا تُكتسب في ذاتها بالتعلم، فهي استعداد فطري مهما كان تعريفك للفطرة. ولكن نموها حتى تستوي على سوقها وتعطي أُكلها، يحتاج إلى التعهد والرعاية والصقل والثقافة والخبرات الفكرية والإنسانية.
وإذ هي استعداد طبيعي، فإنها تتحرك فيك مبكراً في سياق تطور وعيك بذاتك. وهذا ما كان مني في طفولتي المبكرة؛ فكنت إذا سمعتُ الشعر أو قرأتُه اعترتني منه هزة ونشوة وشجى، وانتظم وقع الفؤاد على وقعه، فما إن أردده حتى أحفظه بلا جهد ولا كد، ولبث يتردد في خاطري ماشياً أو واقفاً أو جالساً أو راقداً. وكنت أنتظر بفارغ الصبر حصة "المحفوظات" وكلي رجاء أن يقع اختيار المعلم عليَّ لإلقاء القصيدة المطلوب حفظها.
وأذكر أن أولى محاولاتي الشعرية كانت وأنا في الصف الابتدائي الثاني. وبالطبع، لم يكن فيها من الشعر إلا ما ينبئ به عن استعداد صاحبها وهاجسه. وقد أدركت الوالدة -رحمها الله- هذا المعنى فحرصت على الاحتفاظ بالقصاصة التي كتبت عليها زمناً حتى ضيَّعتْها حركة الحياة في البيت .
ثم وجدتُني، قبل أن أتعلم العروض وأوزانه، أقيم الوزن بالسماع فلا أخلُّ به. وإذا أخلَّ به من ينشده تنبَّه له سمعي، ثم اجتهدت في تصويب القراءة مسترشداً بمقتضى الوزن وحده، لا بسابق علم بالشعر نفسه. حتى إذا بلغت الصف الإعدادي الثاني (أي الصف الثامن)، كانت كتابة الشعر قد استقامت لي وزناً ولغةً على معيار القصيدة التقليدية. وامتد تعريفي لنفسي شاعراً إلى تعريف مجتمع المدرسة والمدينة لي.
ولا يثبت تعريفك لنفسك إلا بمصادقة الآخرين عليه؛ فكان مدير المدرسة يدعوني إلى إلقاء قصيدة وطنية من إنتاجي أمام صفوف المدرسة كلها إذ تنتظم في الساحة قبل الدخول إلى صفوفها. فإذا بلغت في الإلقاء ذروة عاطفية ضج الطلبة بالتصفيق والهتاف، فرفعني ذلك إلى السحاب! فلا أدري؛ هل كنت أوظف الشعر من أجل القضية الوطنية، أم كنت أوظف القضية لأفوز بمجد الشعر وجمهوره؟! أم كان الأمر مزاجاً من الهاجسين والغايتين؟ وهو الأرجح؛ بل لعله كذلك عند الشعراء جميعاً، كبيرهم وصغيرهم؛ في مبتدأ أمرهم وفي آخره! ولا تثريب عليهم فيما تمليه طبائع الأشياء.
لم تنقضِ سنوات الإعدادية حتى كنت قد بدأت في نشر قصائدي بالصحف المحلية، لا سيما صحيفة "الجهاد". وفي المرحلة الثانوية، صار اسمي مألوفاً في الصحافة الأدبية، وتوجت ذلك بالنشر في مجلة "الأفق الجديد" التي كانت مجمع الأدباء والشعراء من الضفتين. وفي هذه المرحلة، تنوعت إسهاماتي بين الشعر والقصة القصيرة والخاطرة الصحفية والمقالة النقدية. إلا أن الشعر بقي في المركز من الوعي والهوية الذاتية. فإذا مشيت في طرقات المدينة ظننت أن المارة يتهامسون: هذا هو الشاعر. ولكن، كان يسعدني بقدر مكافئ أن يتهامسوا أيضاً بتفوقي الدراسي.
وفي هذه الأثناء أيضاً، اكتشفت الشعر الرومانسي الذي فتنني عن الشعر التقليدي، فملأ الشابي بصفة خاصة عالمي الوجداني، حتى حفظت جل ديوانه. وكانت قصيدته "صلوات في هيكل الحب" تحملني إلى عوالم بعيدة مغلفة بالغيوم التي تتراءى من فوقها الأقمار والنجوم، وإذا أمطرت لم تمطر إلا ورداً وشعراً. ثم اكتشفت الشعر الحديث: السياب وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي ونزار قباني وآخرين، ومعهم الشعر الغربي المترجم.
وما هي حتى هجرت القصيدة العمودية إلى قصيدة التفعيلة. واتسعت في الوقت نفسه قراءاتي في الفكر والنقد والفلسفة، وأنا بعدٌ لم أفرغ من دراستي الثانوية. وقبل أن أنتقل إلى الدراسة الجامعية في عمان، كان قد اكتمل لي ديوان مخطوط، رجوت أن تتاح لي فرصة نشره في بيروت. ولكني أجّلت المحاولة حتى أتوصل أولاً إلى النشر في الصحافة الأدبية اللبنانية، وفي مقدمتها مجلة "الآداب" الشهيرة في ذلك الحين، فيعرفني الوسط الأدبي اللبناني قبل أن أجرؤ على عرض ديواني للنشر هناك.
وهكذا كان. وصدر ديواني الأول عام 1969 حين كنت في السنة الجامعية الثالثة كما ذكرت في مواضع سابقة، ولكنه لم يضم شيئاً من المخطوط القديم، فقد شعرت بأن هزيمة يونيو/حزيران قد ذهبت بجدته وسياقه، وخلقت سياقاً جديداً وحساسية مختلفة. وكان شعري بعدها قد صار "أكثر نضجاً"، وتراكم منه ما يغني عن سابقه.
ومكثت على ذلك مسكوناً بهاجس الشعر وهويته، حتى صدر ديواني الثاني عام 1971، حين كنت معيداً بالجامعة. فلما انتقلت إلى لندن لمتابعة دراساتي العليا، بدأ الهاجس البحثي الأكاديمي يزاحم الشعر في فضاء الوعي بالذات ومواضيعها. ولما لم يكن في الوسع التراخي في جهد البحث والدراسة لإنفاق شطر منه في الكتابة الشعرية، فقد وجدتني أؤجل مواعيدي مع الشعر؛ حتى يصير بوسعي أن أتفرغ له بالقدر الذي يحفظ تدفقه من مستودعه العميق.
وبالفعل، عاودته بعد أعوام الدراسة في لندن، فعاودني، وكان ديواني الثالث والأخير بعد زهاء 7 أعوام من صدور ديواني الثاني. ولكني في تلك الأثناء كنت أعبُر أطواراً من التحول في الاهتمامات الفكرية والأدبية والمهنية، حتى لم يعد الشعر شاغلي الأول الذي يمكن أن يستأثر بالقدر الأعظم من طاقتي الذهنية والإبداعية.
فالعمل الأكاديمي لا يمكن دفعه إلى الهامش ليكون مجرّد جهد ثانوي مضاف. ثم وجدت في الكتابة الدرامية ما أحب أن أنفق فيه طاقتي الأدبية والفنية، حيث يجتمع الفن السردي الدرامي مع القيمة الشعريّة المنبثقة من مقتضيات الموقف الدرامي دون تعسّف أو ابتذال أو فذلكة شكلية، مع القيمة المعرفية ورسالة الوعي التي تصل إلى ملايين الناس على اختلاف مستوياتهم الثقافية.
وهكذا، لم أعاود الشعر بعد ديواني الثالث إلا في قصيدتين طويلتين: "البحث عن عبد الله البرّي" و"الحب ثانية". نشرت الأولى في مجلة "الكرمل"، والثانية في الملحق الأدبي لجريدة "الدستور" الأردنية. وفي رأيي المتواضع أني تجاوزت بهما تجاربي الشعرية السابقة من حيث الرؤية والقيمة الفنيّة. ومع ذلك، لم أحاول جمعهما في ديوان وإن قل حجمه، ولم أجتهد أن أضيف إليهما ما يكتمل معه ديوان عاديّ الحجم. لكأني أردت أن يكون خروجي من مسرح الشعر خروجاً قوي التأثير، أو أني أردت أن أبعث برسالة إلى المتسائلين: ها أنذا إن شئت قلت. ولكني الآن في شأن آخر!
توقفت عن كتابة الشعر، ولكني استصحبت الشعريّة معي في كتابتي الدرامية. وعلى أي حال، فقد خلفت ورائي مشهداً شعرياً غلب عليه ما يسمّى الشعر المنثور، وحجة المدافعين عنه أن الأوزان والتفاعيل لا تغني من الشعر شيئاً، وإنما يتقوم الشعر باللغة الشعرية في المقام الأول. وعلى الرغم من أنني أخالف هذا الرأي، وأرى أن الشكل الشعري يتحقق بهذا وذاك معاً، فإن مفهوم الشعرية أوسع من حدود القصيدة، ويمكن حقاً أن يتجلّى في الأشكال الأدبية الأخرى، إلى جانب المقومات التي تتعرف بها. وذاك ما مكث معي حين غادرت أفق القصيدة إلى آفاق أخرى.
نعم، الشعر يكره القسمة والشراكة والضرائر، ويلح أن يبقى في مركز "الأنا"، ولا يبلغ به الشاعر مداه إلا أن يتخذه حرفة يتفرّغ لها بكدّه الذهني والوجداني، فيصحو وينام على هاجسها، ولا يرى شرطه الذاتي في غيرها. وهذا مع وجود الموهبة الفذّة ابتداءً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.