بدأت الفكرة ذات أمسية لموسيقى الصالة، ما إن ترددت النغمات الأول للبيانو من معزوفة الآلات الرباعية للمؤلف اللاتيفي بيتريس فاسكس حتى اتسعت حدقتا عينيّ فرحت أصغي باهتمام إلى دفق اللحن المؤثر، أعلم الأحساس جيداً، لقد سقطت في الفخ من جديد… السرد المتقن طُعم لا أكف عن ابتلاعه المرة تلو الأخرى، سواء أكان ذلك في الموسيقى أم العمارة أم الفنون البصرية أم الأدب، بما في ذلك الشعر، الصنف الأقل تفضيلاً بالنسبة لي.
قبل ساعات قليلة من بدء الحفل وخلال مروري على شريط التغريدات في حسابي بتويتر، عثرت على قصيدة نثر حر قصيرة باللغة العربية لشاعر لم أكن قد سمعت باسمه من قبل هو ميثم راضي، في سطور قليلة رسم راضي هيئة ساخرة للموت، الحدث المتكرر في بلدنا الأم، العراق. عمق الصورة أخذني على حين غرة وهدّد بزعزعة نفوري العتيد من الشعراء؛ بسبب هوس كثير منهم بالتزويق على حساب المضمون، وتعاطيهم مع الأبيات بسلطوية وتعالٍ اقترنا في الأذهان بآلهة قدماء الإغريق.
لكن القصيدة بدت أكثر ألفة وودّاً هذه المرة، همست لي بدلاً من أن تصرخ، قدّمت اقتراحاً عوضاً عن أمر. عدت إلى بيتي في تلك الليلة متأملاً وقع عملَي راضي وفاسكس على نفسي وعقدت العزم على البحث عن مزيد من المعلومات عنهما في الصباح التالي.
"في أعمالي الموسيقية، أتحدث اللاتيفية"، قال فاسكس في إحدى نتائج البحث التي عثرت عليها، تدفّقت موسيقى مقطوعته للبيانو من سماعات حاسوبي الجوال، فيما مضيت أستكشف المزيد من قصائد ميثم راضي التي، وإن كُتِبت بالعربية الفصحى، لكنها أيضاً رددت صدى أحلام وشجون أبناء العراق. استوقفني استهلال عدد من النصوص بسرد لحدث ما، يشابه في بساطته وعذوبته حكايات ما قبل النوم، لكنه ما يلبث أن يأخذ منحىً سريالياً مفاجئاً يحضّ القرّاء على تأمل نهايات خاصة بكل منهم واستخلاص المعاني التي تناسبهم.
أثارت فرادة النهج إعجابي، فقمت بإرسال إحدى القصائد مع رابط لمعزوفة فاسكس لأصدقائي من المهتمين بالشعر، وسرعان ما انهمر عليّ سيل من ردودهم المُشجّعة، خطر لي بعدها أن أكتب مراجعة عن تجربة المؤلف، ألحق بها عدداً من نصوصه المنشورة، بعد الحصول على موافقته طبعاً.
من مزايا أن يكون المرء عراقياً في هذا العصر -أو ربما من المساوئ، حسب الزاوية التي يختار الشخص النظر من خلالها للأمر- سهولة التواصل مع أي من أبناء البلد في أيّ من أصقاع العالم. بفضل مساعدة من زميل دراسة مقيم بالولايات المتحدة، عبر رقم ميثم راضي أثير القارات كي يومض على شاشة جوالي هنا في نيوزيلندا بعد فترة قصيرة من إبداء رغبتي في مراسلته، قمت بالكتابة إليه فرحّب بالفكرة وكذلك فعل ناشر مجموعته الشاعر خالد الناصري (منشورات المتوسط)، وهكذا أبصر المشروع النور.
حيلةٌ قديمة
كان جدّي يجفِّفُ السنواتِ السعيدة؛
ليستخدمَها في غيرِ مواسمِها.
زخّة مفاجئة من الرّيش
في جَنازةِ الولدِ الصغير…
قُلنا: ماهذا الرّيش؟
رفعَ أبوهُ رأسَه ومدَّ يدَهُ في الهواء
التقطَ واحدةً ثم صاح:
إنها كلمةُ "حمامة" التي تعلّم نطقَها منذُ يومَين
نسينا أن نخرجَها من فمِه.
علاماتُ التفجيرِ الفارقة
قالتِ الروحُ الصغيرةُ بمرحٍ للملاكِ الذي كانَ يرافقُها:
ولكنْ، كيفَ عرفَ اللهُ أنني من العراقِ، دونَ أن يسألني حتّى؟!
مدَّ الملاكُ يدَهُ ومسحَ خدَّ الروح…
رفعَ أصبعَهُ أمامَ عينيها وقال:
من السُّخامِ يا صغيرتي.. من السُّخام.
خيطٌ طبّيّ
عندما كانتِ الشوارعُ: جُروحاً…
كانَ العُشّاقُ على جوانِبها، يعبُرون نحوَ بعضهِم مثلَ الغُرَز.
رسائلُ الأثاث
قِطَعُ الأثاثِ الخشبية أيضاً، تُكاتب الغابة…
مثل أبناء بعيدين يكاتبون أمهاتهم
وحدَها الشجرةُ التي صنعوا من ابنها تابوتاً..
لا يصلها أي بريد
لُفافة طويلة جداً
الموتُ لا يعودُ إلى بيته مباشرة
إنه يستريح على الطريق، كما نفعل نحن عندما نسافر
يضع كيسَ الأرواح الذي يحمله بجانبه، ثم يمدد قدميه ويبدأ بالتدخين
الفترة التي يستغرقها لإكمال لفافته، هي تلك اللحظات التي نشعر فيها بأن الموتى ما زالوا هنا.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.