لا يبدو أن الجدل حول المسلسل التركي قيامة أرطغرل سينتهي قريباً، خصوصاً أن المسلسل حرك كثيراً من المياه الراكدة، وتحديداً فيما يتعلق بتاريخ ظل مسكوتاً عنه لوقت طويل، سواء من جانب الأتراك، أهل تلك الحقبة ومسرح أحداثها وأبطالها، أو من جانب العرب، المعادل الآخر في تشكيل تاريخ تلك المرحلة الزمنية، أو حتى من قِبل الأعداء، من غربيين ومغول وفرس، ولكل في ذلك أسبابه.
فالأتراك، عقب انهيار الخلافة العثمانية وتأسيس الدولة التركية، تنكروا كثيراً لتاريخهم وساروا في طريقهم نحو العلمانية التي ساقهم إليها مؤسس تركيا الحديثة كمال أتاتورك، وبالتالي فإنه لم يكن من المتوقع أن يتم تسليط الضوء على حقبة بدايات تأسيس الدولة العثمانية وما رافقها.
أما العرب، فإلى الآن تتحدث مناهجهم التاريخية التي تدرس عن الاحتلال العثماني، ولا تعترف بالخلافة الإسلامية العثمانية؛ لذا فإنه من غير الوارد أن يتناول العرب تلك الحقبة أو يقتربوا منها، في حين من غير المنطقي أن يتناول الغربيون، أعداء الدولة العثمانية حتى من قبل تأسيسها، تلك الحقبة، وإذا كان لا بد فإنه للتشويه ولتصدير صورة العثماني الغاصب للأرض إلى جمهورهم.
قد تغيرت الأحوال، ليس في تركيا التي بدأت تعود إلى عثمانيتها منذ تسلّم حزب العدالة والتنمية دفة الحكم قبل أكثر من 15 عاماً، وإنما حتى في العالم العربي الذي بدأت بوادر وعيه تتشكل حتى قبل انطلاق ثورات الربيع العربي، وصار العربي يراجع ويقيم الكثير مما تعرض له من منهجية غسيل الأدمغة التي دأبت عليها الأنظمة العربية "القومية".
من حق تركيا الحديث التي نهضت على يد حكومات حزب العدالة والتنمية، ذات الجذور الإسلامية، أن تستعيد بعضاً من تاريخها الذي شوهته آلة العلمانية طيلة تسعين عاماً، ومن حق تركيا أن تبث الروح التي أسهمت ذات يوم في وضع لبنات الدولة العثمانية منذ عهد أرطغرل وصولاً إلى محمد الفاتح، فاتح القسطنطينية العظيم.
يخطئ من يعتقد أن المسلسل والفيلم التاريخي أو حتى الرواية التي يطلق عليها خطأ بأنها رواية تاريخية، هي وثيقة، يجب أن يكون فيها كل شيء دقيق وصحيح، فلقد اجتهد النقاد في تصحيح هذا المفهوم، وأكدوا أن لا وجود لشيء اسمه الرواية التاريخية، وإنما هناك متخيل سردي تاريخي، يأخذ من التاريخ حدثه، وما عدا ذلك يكون للمؤلف مطلق الحرية في حبكة الأحداث بما لا يتعارض من ثيمة الحدث التاريخي.
لدينا الكثير من الأعمال التي أخذت التاريخ وجعلت منه مصدراً للسرد الروائي، غير أنها لم تلتزم في دقائق الأحداث التي وقعت آنذاك، فليس النص السردي وثيقة تاريخية، وإلا لما كان له حاجة.
ليون الإفريقي، لأمين المعلوف، الشراع المقدس لعبد العزيز المحمود، أمثلة يمكن الحديث عنها في كيفية تعامل الروائي مع الحدث التاريخي؛ لذا فمن غير المنطقي أن يتهم البعض مسلسل "قيامة أرطغرل" بأنه جانب الصواب في بعض الوقائع، فهو ليس مطلوباً منه أن يكون مؤرخاً وإنما روائي أعمل خياله في حدث تاريخي وقدمه بالشكل الذي تخيله هو، لا كما نقلته له الوثيقة التاريخية.
"قيامة أرطغرل" أكثر من كونه مسلسلاً يتناول حقبة معينة من التاريخ، إنه محاولة لإعادة بث روح الانتصار في جسد الأمة الذي دب فيه الخوار وصارت الهزيمة له عنوان، محاولة لاستلهام التاريخ لتعريف الأجيال بجانب مما كان وكيف كان.
المسلسل لا يمكن أن تراه دون أن تتعقب الحاضر، بل هو الحاضر بلبوس الماضي والتاريخ، فكما كانت الأمة إبان أرطغرل ابن الشاه سليمان، تعاني الهوان والخلاف والاختلاف بينما المؤامرات تحاك عليها من كل جانب، هي اليوم تعيش ذات التفاصيل، غير أن ذلك لا يمنع من السعي والمحاولة، فحتى لو فشلت ثورة لا بد أن تتبعها أخرى وصولاً إلى قيامتنا، تماماً كما جابه أرطغرل خصومه.
ولعل من حسنات أرطغرل، أنه أعاد جمهوراً عريضاً إلى الشاشة الفضية، خصوصاً بعد حالة التدني والإسفاف فيما يعرض، ناهيك عن أن المسلسل أوجد قاعدة مشتركة بين العرب والأتراك، تتجاوز العُقد السياسية والخلافات، وربما كان هذا أحد أهداف المسلسل، التذكير بأن تاريخنا واحد.
ليس من المصادفة أن يكون الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مشرفاً على المسلسل، بل إنه قد تدخل مباشرة في بعض تفاصيل المسلسل، فالرجل معني في بث الروح ليس بالأمة التركية وحسب، وإنما أيضاً في أطرافها الأخرى، وأولهم العرب، فالمصير الواحد أمر يجب التركيز عليه في المسلسل بشكل مستمر.
في الختام، فإن أرطغرل في قيامته هو محاولة لإعادة رسم ملامح طريق أمة، محاولة درامية، يجب أن تتواصل، عبر إنتاج مثل هذه المسلسلات التي أثبتت كذب مقولة شركات الإنتاج التي كانت تسوق الرديء والمسف من أعمالها تحت عنوان "الجمهور عايز كده"، فالجمهور، ومن خلال متابعة عدد من تابع وشاهد مسلسل أرطغرل، اتضح أنه يريد غذاء للروح لا للجسد.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.