إلى عهد قريب كان في جغرافيا دماغي قارة السينما وقارة الفلسفة، لا حدود برية أو بحرية بينهما، كنت أغرف من كل إناء بمعزل عن الآخر، أختار بعناية الأفلام التي سأشاهدها والتي من خلالها سأمنح نفسي على الأقل ساعتين من السفر في الزمن بتجلياته والإبحار في عالم الأفكار والأحداث والأمكنة، واستغل "ساعة صفاً" وحضوراً ذهنياً عالياً لأقرأ وأبحث عن السعادة والحب والفن والجمال والإنسان وغيرها من المواضيع الفلسفية الجديرة بالاطلاع والاهتمام.
تعلمك الفلسفة أن السؤال أهم من الجواب.. وأن مالك المعرفة ومتذوقها من يملك سؤالاً جيداً ومتجدداً، أما من يملك أجوبة شافية كافية فقد أغلق الباب دونه والمعرفة.
جاء صديقي عمر، أستاذ الفلسفة، من مدينة وزان، ومن زمن الفلسفة، جاء ليؤكد لي بما لا يدع مجالاً للشك أن قارتي السينما والفلسفة لهما حدود ووجود واتصال ببعضهما البعض.
* زمن السينما
بدأت مشاهدة الأفلام من سينما النجم بمدينتي (سيدي بنور) أتتبع كل جديد، صارت السينما نافذتنا على العالم -نحن أبناء هذه المدينة الصغيرة- نشاهد الأفلام جماعة ونناقشها على قدر الفهم والإدراك، نتأثر بها، نلعب أدوار الأبطال في حياتنا اليومية، أجمل ما عشناه، ساعة الخروج من السينما -غالباً بعد منتصف الليل- والمدينة غارقة في نومها، ونحن نثرثر عن البطل والبطلة، عن الأشخاص المهمين والتافهين، عن الخدع السينمائية، عن الوهم والحقيقة والخيال.. باختصار عن الحياة.
تتجلى خطورة السينما في قدرتها الهائلة على الاستحواذ عليك.
* زمن الفلسفة
كان أستاذنا لمادة الفلسفة مدهشاً وهو يعلمنا أبجديات الفلسفة، طرح سؤالاً جديداً: ما الفرق بين السؤال العادي والسؤال الفلسفي؟؟…لم نجب.
قال: أين يوجد مكتب البريد؟ لم نختلف في الجواب.. تحديد مكان.. وأردف: مَن أنت؟
مع مرور الزمن، تتالت الأجوبة واختلفت وتصارعت وتضادت.. وتعالت الأصوات، لقد حرضنا على التفكير.
قال: هذه هي المسافة الفاصلة بين السؤال العادي والسؤال الفلسفي.. وذقنا منذ ذلك اليوم حلاوة الفهم.. أو حلاوة السؤال الجاد والمتجدد.. على مذهب سقراط حول المعرفة بأن الحقيقة التي يعرفها عن المعرفة أنه لا يعرف شيئاً.
* جيل دولوز:
لا يستقيم الحديث عن الفلسفة والسينما دون ذكر الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز، فمن خلال محاولته تحديد تعريف جديد للفلسفة أسدى للسينما معروفاً وهو يحدد ماهيتها وعلاقتها بالفلسفة.
يرى دولوز أن السينما تمنحنا القدرة على التفكير، إذ إنها تحرّكنا عبر صدمة فيزيائية، فهي تحمل صوراً / أفكاراً من شأنها أن تجعلنا نفكّر، فالسينما تفكر وتفكيرها مجسد حسياً وانفعالياً، والفلسفة كذلك تفكر بفضل فاعلية وممارسة المفاهيم.
لقد كان متوقعاً أن تقع الفلسفة في غرام السينما، وكيف لا وقد بدأت مغامرة الفلسفة -أم العلوم- من كهف أفلاطون، وانطلقت السينما من القاعات المظلمة مع صور مضاءة باللونين الأبيض والأسود وبالألوان بعد ذلك، بدايات متقاربة وغاية مشتركة هي التحريض على التفكير من خلال لغتين مختلفتين:
(من خلال المفاهيم في الفلسفة) (ومن خلال الصورة/ الحركة في السينما) كما تراهنان معاً على الرقي بالإنسان من مجرد مستهلك للفرجة والمفهوم إلى كائن قادر على التفكير والدهشة.
السينما فن جميل، تتسم بالواقعية حتى الخيال، كتابة مميزة بالصور، تستطيع فصل ما هو بصري عما هو سمعي، وتتجاوز التسلية والترويح عن النفس بشكل كبير من خلال دمجها لكل الفنون الأخرى، وتبقى بذلك السينما موضوعاً فلسفياً متجدداً من خلال التيمات والمواضيع الكثيرة التي تتطرق إليها.
أختم بهاتين المقولتين:
• "الفن هو الشيء الوحيد الذي يصمد أمام الموت"، (مالرو).
• "إني أفكر، إذن فالسينما موجودة" (غودار).
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.