أجرى المخرج الألماني روبرت فان اكيرين تجربة سينمائية في العام 1979 لم يسبقه إليها أحد، عندما اتصل بأناس كثيرين ليرسلوا له مقاطع الفيديو الخاصة من كاميراتهم، وصنع وقتها فيلماً بعنوان "ألمانيا الخاصة" ملأ صالات العرض في العام 1980.
وظل ابتكار اكيرين على حاله لنحو 30 عاماً، حتى تلقفه المُنتج والمخرج البريطاني رايدلي سكوت، بالتعاون مع المخرج كيفين ماكدونالد، ليُنتجا فيلماً يُصور لقطة ليوم واحد من حياة الناس حول العالم، من خلال مُتطوعين يظهرون في الفيلم ليجيبوا بمقاطعهم المُصورة عن مجموعة من الأسئلة تعبر عن حالتهم في هذا اليوم، مثل: ماذا تحب؟ ما الذي يُخيفك؟ أرنا ما في جيبك.
وهنا تحّول المخرج الكبير سكوت صاحب Gladiator وKingdom of Heaven إلى مدير إنتاج يطلب ممن لديهم مقاطع فيديو خاصة، توثيق حدث ما يتعلق بموضوع فيلمه، ثم يرفعها له عبر موقع يوتيوب ليقتطع منها ما يناسبه، وينتج فيلماً سينمائياً بلا صداع التصوير والتمثيل، مطلقاً على هذه الطريقة الفنية الجديدة اسم "السينما الجماعية".
السينما الجماعية
يقول سكوت، "أردت أن أسجل حرارة مشاعر الناس على كوكب الأرض في يوم محدد، وليكن يوم 24 يوليو/تموز 2010، أن أرصد حياة الناس الحقيقية التي يعيشونها، والتي سجلوا لقطاتها بأنفسهم، كيف يتعاملون مع الصعوبات والانتصارات، أن يتحدثوا عن أوطانهم، ويفتحوا ألبوماتهم العائلية. سألت الناس العاديين أن يُجيبوا عن هذه الأسئلة الثلاثة، وهم يستمتعون بقضاء يوم في تصوير لقطة من حياتهم. كان هدفي خلق فيلم سينمائي من لحظات حميمة تلقائية وغير عادية".
Life In A Day from Square Melon on Vimeo.
وكانت المفاجأة وصول عدد مقاطع الفيديو الخاصة لتحظى بفرصة المشاركة في هذا العمل السينمائي إلى 80 ألف مقطعاً. صُنع منها فيلم في العام 2011 بعنوان "الحياة في يوم"، ليُصبح أول عمل سينمائي يتم إنتاجه بالكامل من خلال لقطات خاصة مصورة، تُجسد مشاهد حقيقية من حياة الناس من شتى أنحاء العالم في يوم السبت 24 يوليو/تموز.
ولم يكتفِ سكوت وماكدونالد بهذا، بل وزّعا 400 كاميرا على سكان البلدات والقرى النائية في نحو 40 بلداً، لتشجيع الناس على تسجيل لحظاتهم ونقل انطباعتهم للعالم من حولهم.
إذ يقول ماكدونالد، "يُعتبر هذا العمل تجربة تاريخية فريدة من نوعها، لدعم المحاولات الروائية الفردية، وتوفير منبر حُر للتعبير والتجريب، كما يُتيح الفرصة أمام الأجيال المُقبلة للتعرف على شكل وكيفية حياة الناس فى يوم ما. إنه تجربة مميزة في عالم صناعة السينما الجماعية، كونه يُوفر إمكانية المشاركة أمام ملايين الأشخاص حول العالم عبر الانترنت".
صناعة ألمانية
ومؤخراً، قرر المخرج السينمائي الألماني زونكه فورتمان أن يحذو حذو البريطاني رايدلي سكوت، ويخوض تجربة إنتاج فيلم يُصور التنوع والاختلاف في نمط الحياة في ألمانيا في يوم مُحدد، واختار يوم 20 يونيو/حزيران 2015.
حاول فورتمان في تجربته أن يجمع المقاطع المُصورة التي تمثل المجتمع الألماني ككل، وطرح على المشاركين 3 أسئلة: ما الذي يجعلك سعيداً؟ مم تخاف؟ ماذا تعني لك ألمانيا؟
أجاب أكثر من 10 آلاف شخص، أغلبهم من فئة الشباب، بمشاهد من حياتهم العادية. صوروها بهواتفهم المحمولة في نفس اليوم المُحدد، وشكلت الأفلام بعد المونتاج الذي نفذه 16 فنياً استعان بهم فورتمان، فيلماً بعنوان "صناعة ألمانية".
عَكَسَ الفيلم الانفتاح الموجود في ألمانيا، برصده للحياة اليومية للألمان وأفكارهم، واستكشافه للطريقة التي يريدون الظهور بها للعالم، فهو يُعطي انطباعاً من مشاهده الشخصية والمتحركة، التي جاء بعضها مُضحكاً أو مخيفاً أو فظاً.
في حديثه لـ DW، شرح فورتمان تصوره قائلاً "عندما تُريد كتابة مشهد ما، فأنت لديك تصور عما ستؤول إليه الحكاية، أما في هذه التجربة فالأمر مختلف تماماً. ما عليك إلا أن تُلخص مشاهد من صُنع الناس، وتجعل وطنك بلداً مفهوماً في يوم معين وفي سنة معينة".
يُعرض فيلم "صناعة ألمانية" حالياً في صالات السينما في ألمانيا، ويترقب الوسط الفني باهتمام عالٍ إقبال المشاهدين عليه. ويبقى التساؤل عما إذا كانت هذه الفلسفة الجديدة في الصناعة السينمائية ستتحول إلى ظاهرة وتحفز المواطن العادي لتوثيق لحظات من حياته والاحتفاظ بها، علّها تتحول في يوم من الأيام إلى فيلم سينمائي.