تحولت حملةٌ تضامنيةٌ مع فنانٍ جزائري معتقل، إلى فرصة لفتح النقاش حول وضع "فناني الشارع" في بلاد موسيقى الـ "راي"، الذين يقعون في منطقة رمادية بين من يقدّر فنهم وجرأتهم، ومن يعتبرهم متسولين مقنّعين.
بدأت الحملة التضامنية مع دحة محمد عبر الشبكات الاجتماعية بعدما تم اعتقاله أكثر من مرة في ساحة موريس اودان وسط العاصمة، بداعي استغلال مكان عمومي لجني المال بلا رخصة.
توسّعت الحملة الافتراضية لتترجم في الأخير إلى تنظيم تجمع كبير للفنانين والمتعاطفين في نفس الشارع، تحت شعار "الشارع المتنفس الوحيد للتعبير"، ما دفع السلطات المحلية للاستجابة من خلال منح رخصة لدحة محمد.
تقليد أم تاريخ؟
موسيقى الشارع لا تبدو فنّاً دخيلاً على المجتمع الجزائري، إذ تحدثت "عربي بوست" إلى الكثير من الفنانين والمثقفين الذين أكدوا أن لها امتداداً تاريخياً.
وبحسب الروايات، فقد انتعش هذا الفن خلال الاحتلال الفرنسي للجزائر وتواصل إلى نهاية الثمانينات، لكنه اندثر مع بداية التسعينات مع دخول البلاد في أزمة أمنية، ليسترجع روحه مع بداية الألفية الجديدة.
تتكرر هذه الظاهرة أمام المتجول في شوارع وسط العاصمة الجزائرية، وتحديداً ساحاتها العامة كساحة موريس اودان أو شوارعها التي تعج بالمارة.
وتصدح أنغام الموسيقى الشعبية والقناوية وأحياناً الغربية في الأجواء، غير أن البعض ينظر إلى هذا الفن كوسيلة للتسول، لكن العازفين يعتبرونها وسيلة للاحتكاك بالجمهور بين هواية ووسيلة للعيش.
وفي هذا الإطار، يرجع الباحث الثقافي خميلي العكروت انتشار هذه الظاهرة مؤخراً في الجزائر، "إلى إنها رائجة جداً في الغرب، والشباب يتأثر بكل ما هو قادم من الدول الأجنبية".
التحول من هواية إلى مهنة
وبغية ملامسة واقع هذا الفن عن قرب، التقت "عربي بوست" العازف دحة محمد، سيما أن "فيتا" ألهب الشبكات الاجتماعية لاعتقاله عدة مرات.
ففي شارع ديدوش مراد، كان "فيتا" يعزف ألحان موسيقى القناوي، واضعاً أمامه حقيبة القيثارة عليها بعض النقود التي يتبرع بها المارة.
يقول الشاب البالغ من العمر 29 عاماً، إن بدايته مع هذا النوع من الفن كانت سنة 2007 كراقص "هيب هوب" في الشوارع، "لكن بعد تعلمي العزف على القيثارة خرجت للشارع في سنة 2014 لإظهار موهبتي في العزف والغناء كهواية مفضلة لقتل وقت الفراغ"، وسرعان ما تحول هذا الفن إلى مهنة يقتات منها.
ورفض "فيتا" وصف ما يقوم به على أنه "تسوّل" بطريقة مبتكرة، مشيراً إلى أنه يبذل جهداً طيلة اليوم في العزف والغناء، ومقابل ذلك يتقاضى نقوداً، "فهي مهنة شريفة لها مدخول مهم يتراوح بين 10 و30 دولار يومياً".
نظرة ازدراء
في المقابل، يعتبر زميله حسين براح (29 عاماً) الملقب بـ "حسين فريدوم"، أن هذا الفن مجرد هواية، "ولا يمكن أن تكون بالنسبة لي مهنة؛ لأنها بكل صراحة لا تكفي لقمة العيش".
ويضيف حسين فريدوم، "أمارس هذه الهواية يومياً عندما أنتهي من عملي كرصاص أنابيب، فأقدم معزوفات حسب الطلب أحياناً، لكن دون مقابل".
وبخصوص نظرة المجتمع لهذه الفئة من الفنانين، يعتقد حسين أن الجزائريين متنوّع وبالتالي فمواقفه متباينة، "هناك من ينظر إلينا بازدراء وبعين الريبة، في مقابل ذلك هناك الكثير من يشجعنا على مواصلة المسيرة دون الالتفات إلى الانتقادات".
فن يثير الإعجاب أم تسول يبعث على الشفقة؟
يعتبر الكثير من الشباب الجزائري أن هذا الفن نوع من أنواع التمرد والخروج عن المألوف، ما قد يتسبب لهم بأذى نفسي أو معنوي، وهو رأي معظم المارة.
توضح أستاذة العمل الاجتماعي بجامعة مستغانم فريدة مشري، أن موسيقى الشارع "طريقة للحصول على دخل وتحقيق العيش الكريم، وهو أمر يتناقض تماماً مع التسول القائم على مبدأ الحصول على المال دون أدنى مجهود".
فالعمل – في نظر مشري – يحفظ كرامة الإنسان، في حين يعبر التسول على هشاشة الدولة الراعية والعمل الاجتماعي، "فرؤية الفنان في الشارع مثيرة للإعجاب، في حين أن منظر التسول يثير الشفقة وحتى الخوف لما يترتب عن هذا السلوك من انحراف يهدد استقرار المجتمع".
صوت المهمشين
من جهة أخرى، يرى بعض المهتمين بالشأن الفني والثقافي أن ظاهرة "موسيقى الشارع" جزءٌ من حالة الحراك والتمرد والاستقلالية عن الفن الرسمي، وأنها ظاهرة تمثل صوت المهمشين في الشارع، وتعبر عما وصل إليه الوضع الثقافي من ضعف عام وإهمال كبير للمبدعين الشباب.
وهو ما ذهب إليه رئيس جمعية الكلمة للثقافة والإعلام عبد العالي مزغيش قائلاً، "قليلون من يتجرؤون على تحويل الشارع إلى منصة لعزف ألحانهم وإسماع الناس أصواتهم وجهاً لوجه، ولكن رغم سعة الفضاء الثقافي والفني بالعاصمة من مراكز وقاعات، لكنها ضاقت بما رحبت به، فالكثير من الصالات مهجورة للأسف".
وبحسب عبد العالي، فإن ذلك يدفع الشباب للجوء إلى "موسيقى الشارع" كتعبيرٍ عن رفض الإدارة وتعقيداتها وتهميش المسؤولين للمواهب الشبابية، "فموسيقى الشارع حلّ ليس جوهرياً، لكنّه يظل تعبيراً عن سخط أصحابها على الجهات الوصية، بسبب تمركز النشاط الثقافي بيد وزارة الثقافة".